يخيل للمرء انه من غير الممكن أبدا أن يتفق نظام بشار الأسد وغالبية معارضيه على أية قضية سورية رئيسية. و أنهما يقفان على طرفي نقيض من كل المسائل الجوهرية المتعلقة بقضية الدولة و المجتمع، السلطة و الديمقراطية، وهو ما يبدو معقولا على الأقل،بالنظر إلى الموقع الذي يتخذه كلا الطرفين إزاء الآخر طوال السنين الست الماضية من عمر ثورة الشعب السوري.غير أن ملفا واحدا مهما و أساسيا أظهر و بحدة أن تطابق موقفهما أمر حاصل بالفعل وأن العلاقة بينهما ليست تناقضية إلى ذالك الحد.
إنه ملف منطقة الإدارة الذاتية الديمقراطية التي جرى إعلانها بمبادرة من تحالف عربي كردي سرياني آشوري يجمع بين أبناء تلك المنطقة، يحوز على مركز الثقل الرئيسي فيه حزب الاتحاد الديمقراطي ( الكردي )، و أحزاب و أطراف عربية سريانية أشورية تتعاظم أدوارها بشكل متزايد وباضطراد.
و إذ يفهم المرء دواعي عداء النظام و رفضه لما يحصل في هذه المنطقة من تغيرات مفصلية قيمية و قانونية و سياسية و عسكرية،الأمر الذي يجعله لا يوفر أي تعويق لتجربتها قد يصل حدود الاصطدام المباشر و القصف الجوي، كما حصل في العديد من المناسبات *، سيما و هو نظام مستبد لم يعترف يوما بالطبيعة المتعددة و المركبة للهوية السورية، بمحتواها المتعدد اثنيا و دينيا و مذهبيا التي تحتفي بها تلك المنطقة، ولم يتورع يوما عن استخدام كل صنوف القهر و العنف لمحاربة المطالبين بالحرية في بلاده، لا يمكن فهم موقف المعارضة السورية بمفكريها و كتابها و مثقفيها و سياسييها،العرب منهم على نحو الخصوص،موقفها مما يحدث في مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية إلا في إطار يشي بالجذور العميقة لازمة الديمقراطية و العلاقة مع الآخر و فهم مواقعه و التفاعل معه في بلادنا و مجتمعنا، عند من يقول بأنه الحامل لخطاب الديمقراطية وقيمها وليس عند المنظومة الديكتاتورية للأسدية فقط. و أن هذه الأزمة تطال المثقف و هو المعول عليه في حسه النقدي وفي قدرته على الخلاص من آليات إنتاج ثقافة الاستبداد والاستحواذ و الإلغاء في المجتمع تلك التي برع في استخدامها الأسدين، الأب و الابن في سورية طوال العقود الماضية. المثقف الذي تحول و الحال هذه إلى رأس حربة في عملية تصليب هذه الأزمة، في صونها و حتى في إعادة إنتاجها من جديد.
الغريب في الأمر أن الغالبية الساحقة من المعارضين السوريين، سياسيين كتابا أو مثقفين، إنما تعاطوا الموقف من القوى القائمة على تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية، ونظروا عنه وقرروا شكله، دون أن يتبعوا أي منهجية علمية تتيح لهم حصولهم على مقاربة متوازنة وموضوعية،وهم بالإضافة أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء الاضطلاع على الخطاب السياسي و لا على الأسس الفلسفية و المنظورات الجديدة للدولة و السلطة، للمجتمع و الأمة، المعتمدة في تلك التجربة، كان أن تلقفوا أيضا، المعلومات و الحيثيات العملية عن هذا الموضوع دون تفحصها و البحث عن موثوقيتها، ليتحول لديهم ما حصلوا عليه من وسائل التواصل الاجتماعي و من مقالات الرأي الصادرة عن لون سياسي واحد، إلى معطيات" موثقة"، إلى حقائق. ولا يلبث المزيج المتفاعل لديهم،بين الجهل النظري بأهم الفاعلين في تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية، و بين معطيات هشة، في أسس توثيقها و في حدثيتها الواقعية، عن البيئة و الأحداث المتعلقة بذات الموضوع،أن يخلق لديهم موقفا من التجربة،فاضحا في علاقته بالحقيقة، موقفا يصلح لان يكون نموذجا معياريا للمواقف الرغبوية المضللة المنفصلة عن حقيقة الواقع و المنقطعة عنه بشكل مدهش.
و يكفي للدلالة على فضائحية موقفهم و هزال محتواه التحليلي،و سطوة البعد الرغبوي عليه، هو اتهامهم للقوى القائمة على الإدارة الذاتية الديمقراطية بالعداء للثورة ووقوفها مع النظام، متجاهلين أن هذه القوى، رغم صبرها ببراغماتية محسوبة على بعض أثار السلطة الرمزية للنظام،هي التي فككت طوال سنوات الثورة الماضية كل علامات سلطة النظام المادية،و بنت مؤسسات سلطة بديلة وغيرت بعمق و بشكل ثوري دولة الأسدية في مناطقها الواسعة،غيرت المنظومة القانونية،الإدارية،التمثيلية،قوى الأمن و الشرطة و الجيش و النظام التعليمي و استبدلتها بأخرى تتناقض جذريا مع ما قبلها، أي مع تلك التي شيدتها الأسدية في زمن ما قبل الثورة، كيف إذا و الحال هذه أن تكون هذه القوى عميلة للنظام؟ ألا يخاطرون في اعتبارهم هذا بكل حقائق علم السياسة، بل بضربه في منطقه و علميته.
أخيرا، إذا كانت هذه السطور، ووفقا للمفردات التي تستخدمها في وصفها للحدث السوري، تنتصر للقول بأن ما يحدث في سورية منذ عام 2011 هو ثورة بكل ما تحمل هذه الكلمة من مضامين،،فإنها لا ترى في الإدارة الذاتية الديمقراطية،بالاستناد إلى ما تقدم،إلا الوجه الذي يتحقق للثورة السورية. وجه ينبغي دعمه و الدفاع عنه.
*عضو الهيئة الرئاسية في مجلس سورية الديمقراطية.
التعليقات