لهذه المقالة اجد واجبا الكشف عن محنتي منذ عامين في العينين واضطراري لترك الحاسوب والطباعة والقراءة. ومما اذكره ايضا ان صديقين عزيزين متطوعان لقراءة ما اكتب بقلم خاص ، ومن ثم طبعه على الحاسوب وإرساله للنشر. فألف شكر لهما... في هذه المحنة التي لا اعرف الى متى تستمر ، صرت اركز على الذاكرة واقتات عليها ، حيث يتعذر عليّ حتى ان اقرأ في كتبي وما نشرت من مقالات ودراسات ... وقد ارتأيت ان اتوقف هنا وهناك عند بعض كتاباتي من ادبية وسياسية وعلاقتها بالسيرة. لعل اول مقال نشرته وأنا في الثانوية كان بعنوان(المفارقات بين الحقائق والأسماء) نشرته لي مجلة بغدادية لعل اسمها الزهراء او الزوراء... كانت فرحتي كبرى بأن ينشر لي ، وسرعان ما خفت الحماس لان المقال كان على حساب تحريف بعض الحقائق عن العائلة وهجاء من لا يستحقون.. فالفتاة الحسناء وصفتها بغير الحسناء والرجل الصادق وصفته بالكاذب وهكذا.. وقد سلم من قلمي والدي وجدتي. واما اول نشر لي يعتد به ، فكان في مجلة الرسالة الادبية المصرية التي كان يصدرها احمد حسن الزيات. وقد نشرت فيها عام 1945 خلال زيارة لمصر وأنا في كلية دار المعلمين العالية ، قصة قصيرة بعنوان (سبيلك الجديد) في تلك الزيارة تعرفت على سيد قطب (قبل سنوات من انقلابه على نفسه وأفكاره المنفتحة وتحوله الى داعية الارهاب الجهادي) وهو الذي اخذ القصة مني وأرسلها للزيات. وحين اصدر عام 1947 مجلة ابحاث بعنوان ( العالم العربي) طلب مني المساهمة ، فأرسلت له بحثاً عن القضية العقارية في العراق، فنشرها كما هي . وقد حظيت في حينه برضا قادة الحزب الشيوعي في سجن الكوت الملاصق للمدرسة الثانوية التي كنت مدرساً فيها. كما نشرت في المجلة بحثا عن دور الطبقة العاملة في العراق. وكنت ، منذ 1946 قد انغمرت في النشاط السياسي . وعام 1948 نشرت في صحيفة (الاساس) الموالية للحزب الشيوعي ، عدة مقالات سياسية ، كما نشرت في صحف اخرى ، وباسم مستعار ، مقالات اخرى ، حتى كان اعتقالي وسجني في نوفمبر 1948. في السجن كنا مرة نحظى بالسماح بالكتب والقلم والورق، ومرات نحرم منها. وقد نظمت والفت عدة قصائد في مناسبات ثورية . وفي اواخر السجن وعشية ثورة 14 تموز ، اجتاحني حنين جارف للكتب والقلم والورق، وصرحت ذات مرة امام بعض الرفاق المسجونين ، انني متألم لكوني تركت الادب وانصرفت للكتابة السياسية وحدها، حيث ان حب الادب كان يمتلكني منذ المتوسطة والثانوية. كلامي البريء هذا فسره احد المغرضين بكونه دليل( الاندحارية السياسية) . بعد خروجنا من السجن انغمرت في كتابة المقالات السياسية يوميا، والقيت محاضرة طويلة في قاعة الشعب عن القومية والديمقراطية. وكانت سجالاً مع فلسفة وتحليلات عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل ، التي كانت تلقى بالديمقراطية السياسية جانبا، بحجة (وحدة ما يغلبها غلاب؟؟) وقد صدرت المحاضرة في كتاب كما صدرت مقالات اخرى لي في كتابين. وكان ان انتدبت الى هيأة تحرير المجلة الشيوعية الدولية (قضايا السلم والاشتراكية) فساهمت في المناظرات والمناقشات وكتبت بعض المقالات ، حتى عودتي سراً للعراق في اواخر 1966 .
اطفر من هنا الى سنوات الثمانينيات ، حيث انفتحت شهيتي الكتابية ادباً وسياسة. فصدرت لي رواية بعنوان (دفاتر الشخص الاخر) ومجموعة قصصية (صنوبر) واخرى (وأزهرت الرمال) وكتاب ادبي بعنوان (ابو هريرة الموصلي) عن القاص ذي النون ايوب، وهي كتابات اعتز بها. كما بدأت بكتابة مذكراتي السياسية بدءاً بكتاب (مع الاعوام) الذي فيه محطات وتحليلات انا نادم عليها، حيث املتها مجاملة مرفوضة لنظام صدام وقد عالجت الخلل في الطبعة الثانية . الحديث طويل ، ولكنني اود التوقف عند ما يلي: اعتقد بان كتاباتي الادبية منذ الثمانينيات كانت بمستوى مرض ، كما انني احب قطعة لي بعنوان (الحارة) نشرها الاستاذ عبد القادر الجنابي في مجلته (فراديس) في بداية التسعينات وكانت تلخص قصة حقيقية لي ، وهي انقاذ حمامة كانت ضحية دهس سيارة ولكنها لم تمت ، فأودعتها حيث اعتنوا بها وشفيت .. واتوقف لدى كتاباتي (الرثائية) حيث رثيت العديد من الاحباب واحدا بعد الاخر ، وانا اقول لنفسي: وانت مالك باقياً؟ ، اتذكر مثلا رثائي لشقيقتي لطيفة الحاج و لولدي سامي الذي وصفته بـ (القديس) لانه كان بريئا ، ورغم تقدم عمره ، كان يتعامل مع الاخرين كشاب في بداية الشباب . واعتز برثائي للصديق الدكتور رياض الامير، في مقال مشترك مع الصديق الدكتور عبد الخالق حسين ، وتحت عنوان (رياض الامير، في رحيله المبكر والموجع). ونشرت سلسلة قصائد عن حبيب رحل قبل عشرين عاماً، وقلت فيه بعد عامين من وفاته:
عامان مازال يلظى منهما شجني
ولم تغب لحظة عني وعن سكني
كأنما انت ذاتي لا تفارقني
فأنت في يقضتي حيّ وفي وسني
ولخصت قصتي مع حبيب اخر رحل مؤخراً ، فقلت:
لما اتاني صباحا يبتغي سكناً
والجوع انهكه والبرد اضناهُ
تفجرّ الحب والاحزان تنهشني
وصار ابني وهذا القلب مأواه
ولو سألوني أي كتاب لي هو الاحبّ الي ، لاحترت في الجواب ، ولكن لكتابي (بغداد ذلك الزمان) الصادر اواخر التسعينيات مكاناً خاصا . حيث توقفت مطولاً لدى المجتمع العراقي في الاربعينيات والخمسينيات ، والنهضات الثقافية والنسائية والاجتماعية . وكتبت عن عطاء الاقليات من كرد فيلية ويهودية ومسيحية ، وما قدموه في مختلف المجالات من عطاء ثرّ.
في كتاباتي على مدى عقود من السنين ما يرضيني وفيها ما انا نادم عليها.... ومما اعتز بها ، مقالاتي عما سمي بالربيع العربي، حيث كنت ارى منذ البداية ان ما جرى لم يكن ربيعاً على نمط اوربا الشرقية ، وإنما تبديل الحكام وان العالمين العربي والإسلامي فيهما معوقات كثيرة امام الديمقراطية . لست مرتاحا لان تحليلاتي كانت اقرب للصواب ، اذ تمنيت لو سارت الامور وجهة اخرى ، ولا سيما ونحن نرى اوضاع سوريا وليبيا واليمن ، مثلا و ايضا اوضاع العراق... واخيرا، معذرة لأصدقاء ارسلوا لي ، كما سمعت رسائل بالايميل خلال عامي محنتي ، ولم أجب لأنني تركت الحاسوب والكتابة عليه، بل نسيت حتى كتابة اسمي، بينما كنت اطبع كتبي بنفسي على الحاسوب . معذرة لهم وعفواً.
ختاما ، حين اخاطب امي :
اماه ، فارقني احبائي وأتعبني زماني
اماه ليتك كنت جنبي كي افيء الى الحنان
اماه ، اسال ، والسؤال يظل ينخر في كناني،
لم يرحل الاحباب عني هكذا قبل الاوان
فأحس ان العمر بعدهم قد افتقد المعاني؟
التعليقات