في السادس عشر من شهر نوفمبر 1975 اجتمع في قلعة رامبويية (Rambouillet) في ضواحي باريس رؤساء الدول الرأسمالية الأغنى الخمسة في العالم، الرئيس الأميركي جيرالد فورد (Gerald Ford) ورئيس وزراء بريطانيا هارولد ويلسون (Harold Wilson) والرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان (Valery Giscard D’Estaing) ومستشار ألمانيا الاتحادية هيلموت شميدت (Helmut Schmidt) ورئيس وزراء اليابان تاكيو ميكي (Takeo Miki) وهو الاجتماع التأسيسي لما بات يعرف بالجي فايف (G 5) – وهو اليوم (G 7) بعد إضافة ايطاليا وكندا – كي يقرروا ما رآه الكاهن في مذبح النظام الرأسمالي وليم سيمون (William Simon) الذي أتى به نيكسون وزيراً للخزانة كي ينقذ النظام الرأسمالي مما بات يحيق به من أخطار "يخشى" أن تكون حقيقية تؤدي إلى انهياره. وهكذا أُعلن من رامبوييه في السابع عشر من نوفمبر إعلان جديد للعالم سمي بإعلان رامبوييه (Declaration Of Rambouillet)
ليس ما يبعث على الطعن في سجل التاريخ المتداول كما يطعن تجاهل هذا الإعلان، إعلان رامبويية، وهو الإعلان الذي نقل العالم من تاريخ إلى تاريخ، من النظام الرأسمالي الإمبريالي إلى "نظام" الفوضى، بل هي الفوضى العارمة التي جاء بها كاهن الرأسمالية وليم سيمون وقد هدم أعمدة هيكل الرأسمالية على رأسه ورأس العالم.
فماذا قال إعلان رامبوييه؟
استشعاراً بخطورة الإعلان التي لم يعد يستشعرها أحد أفاض المؤتمرون الخمسة كثيراً في الحديث عن تقديسهم للحرية وللتعاون الدولي والاستعداد التام للتصدي لمختلف القضايا التي تواجه مختلف الدول مثل تفشي البطالة والتضخم النقدي من خلال التنمية الثابتة والمستدامة. لم يتجاهل الزعماء الخمسة أن ما جاء بهم إلى الإجتماع في أول اجتماع للخمسة الكبار (G 5) هو أن بلدانهم لم تعد قادرة على التخلص من فائض الإنتاج في أسواقها وهو ما انعكس في ارتفاع نسبة البطالة وفي تضخم نقدي، وهم لذلك أعلنوا ثلاثة بنود لمعالجة الأزمة التي من شأنها أن تكفل سلامة النظام الرأسمالي، بزعم كاهنهم، وهي البنود 10، 11، 12 في الإعلان، ونحن هنا سنبحث في البندين 10 و 12 قبل الحديث بالغ الأهمية عن البند 11 وهو القرار الإنقلابي الخطير حيث من خلاله تحول الرأسماليون إلى لصوص من البورجوازية الوضيعة.

يقول البند (10).. سنعمل على زيادة وتطوير العلاقات الإقتصادية والتجارية مع البلدان الإشتراكية وهو ما من شأنه أن يعزز السلم الدولي بين الجانبين. واليوم نحن في تواصل مع البلدان الإشتراكية للإتفاق على شروط فتح الاعتمادات التجارية اللازمة.
المأزومون الخمسة الأغنياء تذكروا الإنفتاح التجاري على الدول الإشتراكية ليس تلبية لمناشدة قائد الثورة الشيوعية العالمية رئيس الإتحاد السوفياتي ليونيد بريجينيف قبلئذٍ بمائة يوم فقط في هلسنكي يتضرع إليهم أن يلاقوه في منتصف الطريق فلا يخسر كلاهما، لا لم يكن ذلك استجابة لمناشدة بريجينيف في هلسنكي وقد استنكر الثورة الشيوعية، بل كان محاولة لفتح ثغرة يتم من خلالها تصريف شيء من فائض الإنتاج الذي يهدد نظامهم الرأسمالي بالموت في أرضه. هم لم يعلموا أن بريجينيف ما كان ليتضرع إليهم لملاقاته في منتصف الطريق من أجل التصالح مع الرأسمالية الإمبريالية فقط بل لأنه مأزوم مثلهم ففي ما بين 1955 إلى 1975 تراجع الإقتصاد السوفياتي في مختلف حقول الإنتاج باستثناء التسلح الموجه لمقاومة الاشتراكية وليس المعسكر الرأسمالي كما يؤكد تضرع بريجينيف. لذلك فالإنفتاح التجاري على البلدان الإشتراكية لن يفيدهم في تصريف فائض البضائع لديهم إلا إذا استبدلوا بضائعهم بأسلحة هي فائضة في الإتحاد السوفياتي لكن الأسلحة لا تساعد في إعادة الإنتاج الرأسمالي. ولعل من الجدير ذكره في هذا السياق هو حماقة الإدارة الأميركية في مقاومة الشيوعية التي وصلت إلى حد نقل الإنتاج البضاعي الرأسمالي من الولايات المتحدة إلى كوريدورات الثورة الشيوعية في شرق وجنوب شرق آسيا فهدمت النظام الرأسمالي وليس الشيوعي.

البند (12) من الإعلان يقول.. التعاون والتفاهم المتبادل بين العالم الصناعي والدول النامية هو أمر صحي للطرفين. وعلى العالم الصناعي أن يساهم في تطوير البلدان النامية. العجوزات في الموازين التجارية للبلدان النامية تحول دون تلك المساهمة ولذلك على الدول الصناعية أن تساعد الدول النامية في سد تلك العجوزات عن طريق المساعدات المالية والقروض السهلة.
خلال خمس سنوات 1977 – 1982 لم تكن المساعدات المالية بالحدود غير المعتادة، أما القروض ففيما كانت في العام 1977 لا تزيد عن 0.07 ترليون دولار وصلت في العام 1982 إلى 3.0 ترليون وقد تضاعفت أكثر من 40 ضعفاً. حسناً، استهلكت الدول النامية جميع القروض في تصريف فائض البضاعة في المراكز الرأسمالية لكن التصريف توقف نهائيا لأن الدول النامية ليس لديها الأموال لشراء المزيد من البضائع الفائضة في المراكز؛ والبضائع التي استوردتها بالقروض لم تساعد في التنمية بل العكس هو ما كان حيث عملت البضائع المستوردة على محاصرة قوى الإنتاج المحلية التي باتت أعجز من أن تسدد شيئاً من الديون. وهكذا انتهت سياسة المساعدات والقروض إلى تعميق الأزمة في الجانبين بدل معالجتها. ويجدر هنا أيضاً التنبيه إلى أن كثيرين من المحللين والساسة البورجوازيين قالوا أن سياسة الدول الرأسمالية الإمبريالية في القروض السهلة إنما استهدفت الحفاظ على سيطرة الدول الامبريالية على الدول المدينة لكن هؤلاء المحللين والساسة لم يبينوا كيف للغني يخطط لأن يكون فقيراً كي يحتفظ بالسيطرة على من هو أفقر منه!

وأخيراً نخلص إلى البند (11) الذي يقول..تتعهد سلطاتنا النقدية بالعمل على استقرار أسعار الصرف في أسواق العملات ومقاومة التيارات الغريبة الهوجاء التي تعصف بمعدلات الصرف في الأسواق المالية. ونحن سنوصي اللجنة المؤقتة لصندوق النقد الدولي التي ستعقد جلستها القادمة في جمايكا بعد أسابيع بأن تقوم باصلاحات أساسية في نظام النقد الدولي. 

فما معنى "العمل على استقرار أسعار الصرف" ؟ وأية "إصلاحات" لنظام النقد الدولي هم أوصو اللجنة المؤقتة لصندوق النقد الدولي لاتخاذها في اجتماعها القادم في جمكايكا في يناير 1976 !؟
تستقر أسعار الصرف في أسواق المال من خلال ثبات القيمة البضاعية للنقد فقط، ولا يمكن على الإطلاق أن تستقر أسعار الصرف مع إلغاء القيمة البضاعية للنقد. أما الحديث عن استقرار أسعار الصرف مع الفصل التام لقيمة النقد عن قيمة البضاعة ومنها الذهب فذلك يبقى هذرا مكانه غير هذا المكان. 

العالم هنا أمام حقيقة كبرى يجري تجاهلها لأكثر من سبب، حقيقة شطب قانون القيمة الذي ينظم حياة الناس وعلاقتهم في عملية الإنتاج. لقد أوصى قادة الرأسمالية العالمية الخمسة (G 5) في اجتماعهم التأسيسي في رامبوييه، أوصوا اللجنة المؤقتة لصندوق النقد الدولي بشطب قانون القيمة البضاعية للنقد فتقرر في جمايكا إلغاء معاهدة (بريتون وودز) التي تؤكد القيمة البضاعية للنقد من خلال ربطه بالذهب، وكشف النقود من كل غطاء لها فلا تعود هي البضاعة التي تنوب عن الذهب والفضة في معايرة القيمة البضاعية حيث يعود إلى الدولة التي تصدر النقد أن تحدد القيمة التبادلية لنقدها مقابل النقود الأخرى. ولما لم تكن النقود الأخرى معايرة بأية بضائع فذلك يعني أن حركة النقود على الصعيدين الوطني والدولي لا علاقة لها بحركة البضائع وتبادلها. لقد حددت قمة رامبوييه علاقة النقد بالنقد وألغت كل علاقة للنقد بالبضاعة. ومن هنا تحديدا نجد أن أونصة الذهب التي كان يجري تبادلها في العالم 1975 بأقل من أربعين دولاراً جرى تبادلها في العام 2012 بأكثر من ألف وثنانمائة دولاراً، وأن أجر لاعب كرة القدم يصل اليوم إلى مليون يورو شهرياً دون أن ينتج هذا اللاعب أية قيمة، وهو ما يزيد عن أجر ألوف العمال في مصنع بضاعي. وأن الخدمات التي لا تضيف لثروة الأمة أية إضافة تجري مبادلتها بأضعاف أصعاف قيمتها الحقيقية، وهي دورها في عملية الإنتاج البضاعي.


ماذا قال القادة الخمسة المتعصبون للنظام الرأسمالي وراء كاهنهم وليم سيمون وزير خزانة نيكسون، قالوا للعالم.. حسنا أنتم أغلقتم كل المنافذ للإنتاج الرأسمالي وحكمتم عليه بالموت لكنكم بعد كل ذلك لن تفلتوا من قبضتنا، فطالما أننا لم نعد ننتج البضائع لكن لدينا كل الأموال الصعبة في العالم. أنتم أسقطتم قيمة بضائعنا الرأسمالية لكنكم لن تسنطيعوا أن تسقطوا قيمة نقودنا المالية. فلتسقط قيمة كل البضائع ولتنتقل كل القيمة من البضائع التي لم نعد ننتجها إلى النقود التي تغصّ بها خزائننا !! هؤلاء الرأسماليون الموهومون وقد ظنوا أنفسهم الآلهة يأمرون النهر أن يعكس مجراه فيجري من الأسفل إلى الأعلى فينصاع في الحال.

الصحيح فيما يقولون هو أن أولئك القادة الرأسماليين الخمسة كانوا راكموا ترليونات ساعة عمل خام في نقودهم حتى كانت صعبة خلال القرنين الرأسماليين 1750 – 1950، لكنه صحيح أيضاً أن نقودهم الترليونية الصعبة تبقى ترليونية صعبة طالما أنها اختزنت قيمة بضاعية أما بحالة شطب قيمتها البضاعية فهي بذلك تستحيل إلى أوراق لا قيمة لها. إنهم أصحاب هذه النقود الذين فكوا ارتباط نقودهم بالذهب أو باية بضائع أخرى، وهم ههنا يذكروننا بطرفة جحا الذي قطع فرع الشجرة الذي يقف عليه.

نهاية الموضوع في المقالة القادمة