تساءل شاعر ألمانيا العظيم الفيلسوف غوته يوما ما : هل هناك خلود في الوجود؟ أم إن كل ما جاء إلى العالم سوف يفنى؟ وبدون أن نرفع أيدينا متضرعين نحو سماء لا نهائية معدومة الاتجاهات والحدود،علينا أن نبدأ مسيرتنا متحدين ومخترقين مختلف القوى والعقبات نحو مستقبل قد يكون على مستوى أحلامنا الكبرى في الوصول إلى الخلود يوماً ما، وهذه المسيرة قد بدأت بالفعل مع العلم ولن تتوقف أبداً.
يتعين علينا في البدء أن نخرج من نطاق وجودنا المادي الضيق المحصور بأرضنا ونظامنا الشمسي، وألا نعتقد أننا فريدون ووحيدون في هذا الكون. فحساب السنين على المستوى الكوني لا يتعدى طرفة عين وأمامنا زمن لامتناهي لمواصلة الرحلة البشرية لمعرفة ملحمة الوجود الإنساني منذ كان جسيماً أولياً في مكونات النجوم إلى الإنسان الأعلى أو الإنسان- الإله. فمن الطبيعي ونحن في العقدين الأولين للقرن الحادي والعشرين أن نتخيل حضارتنا البشرية تتقدم وتتطور وتخترق الآفاق وتتوسع نحو مكونات مجرتنا درب التبانة وما يتجاوزها من مجرات تكون محتويات كوننا المرئي المنظور التي تقدر اليوم بثلاث مائة مليار نجمة أو نظام شمسي على غرار نظامنا الشمسي الذي نعيش فيه. وهذا الحلم ممكن التحقيق على المستوى النظري علمياً لكنه صعب التحقيق على المستوى العملي تكنولوجياً في الوقت الحاضر والعقبة الرئيسية هي وسائل النقل والارتحال النجمي والمجري، أي بين النجوم والمجرات داخل كوننا المرئي بحكم المسافات الهائلة ومحدودية سرعات وسائل النقل البدائية التي في حوزتنا حالياً. فنحن نعرف القوانين الجوهرية التي تسير هذا الكون المرئي وتحكم تطوره وهي من الثوابت الكونية المتعارف عليها علمياً، لكن الواقع العلمي فتح لنا أبواباً كانت موصدة في الماضي ووضعتنا أمام مفارقة علمية عويصة لم يتمكن أحد من حلها إلى يوم الناس هذا ألا وهي التناقض الظاهري والمفارقة البادية ظاهرياً بين نظرية النسبية التي جاء بها البرت آينشتين وتقوم عليها فيزياء اللامتناهي في الكبر، والنظرية الكمومية أو الكوانتية في ميكانيك الكموم أو الكونتوم التي كان أحد أعمدتها آينشتين نفسه وتقوم عليها فيزياء اللامتناهي في الصغر، أي من الذرة وما دونها إلى تخوم الكون المرئي وما بعده، حيث يتعذر في الوقت الحاضر الجمع بينهما والخروج بنظرية واحدة جامعة وشاملة للكون المرئي. ونحن بانتظار ظهور نظريات علمية جديدة من شأنها تغيير نظرتنا ورؤيتنا كلياً للكون المرئي. كان طاغياً في فترة ما على عقول الكثير من العلماء والمفكرين والفلاسفة فكرة العودة إلى نقطة البدء في دورة لامتناهية من التعاقب، فالكثير من الحضارات البشرية الكبيرة المعروفة في الماضي، من الحضارات البابلية والسومرية والآشورية، إلى الحضارات الهندية الهندوسية والبوذية مررواً بحضارة المايا وغيرها، قدمت رؤيتها الكوزمولوجية المبنية على النظرية الدورانية التعاقبية، أي الزمن الدوراني الذي يسير عبر مختلف الحقب مع تباينات، تكون أحياناً طفيفة، وأحياناً أخرى عميقة، بين الحضارات، لكنها تقول أن الكون عندما يصل إلى نقطة محددة في المستقبل سوف يتوقف ويعود من جديد في مرحلة حياتية جديدة، فعند البابليين كانت كل حقبة تقدر بــ 424000 سنة، في حين تقدرها الميثولوجيا الهندية بأطول من ذلك بكثير، فيوم الإله الهندي براهما يعادل 4 مليار سنة من سنواتنا البشرية وفي نهاية هذا اليوم يدمر ويندثر كل شيء موجود ويعاد انبعاثه من جديد بما في ذلك جوهر الكون والإله براهما ذاته اللذين ينصهران في نوع من التكوين الروحاني المحض غير المادي، ومن ثم يعودان للحياة régénèrent كل 311 ترليون سنة، أي 3.11X1014 سنة. وبعض الفلاسفة الإغريق من المدرسة الرواقية école stoïciennes يعتقدون أن نفس الأشخاص والأحداث تعود مرة أخرى في كل حقبة أو دورة زمنية على نحو أبدي لا نهائي، وهي الأطروحة التي عارضها آرسطو.
كانت مراقبة الطبيعة من قبل البشر الأوائل وتعاقب الظواهر الطبيعية كالليل والنهار والشمس والقمر وتعاقب الفصول الخ، وكانت تحتل مكانة مهمة في نفوس إنسان ذلك الزمان، لغموضها ولغزيتها وتأثيرها على حياته اليومية وصيده وزراعته، لكن مجيء المسيحية قد فرض خطاً امتدادياً مستقيماً للزمن باتجاه واحد مرتبط ومتقيد بحدث وحيد ألا وهو موت وانبعاث المسيح ولقد أعرب عن هذه الفكرة بوضوح القديس أوغسطين في كتابه" مدينة الله" وقال إن المسيح مات من أجلنا ومن أجل مسح خطايانا وعندما سيبعث من جديد فسوف لن يموت أبداً. وعندما ووجه بفكرة تعدد العوالم المسكونة بكائنات أخرى قال:" لكل منها مسيحه الخاص. وفي علم الكونيات المعاصر نجد هاتين الرؤيتين أيضاً، أي الزمن الدوري المتعاقب والزمن الخطي. ففي الوقت الحاضر تجعلنا معلوماتنا البدائية وتكنلوجيتنا غير المتطورة بما يكفي، نعتقد بالزمن الخطي temps linéaire بيد أن فكرة الزمن التعاقبي الدوري ليست مستبعدة كلياً لأن الزمن على الأرض ليس هو نفس الزمن على الكواكب الأخرى والنجوم الأخرى داخل مجرتنا وفي المجرات الأخرى. وعلى الإنسان في رحلته نحو المستقبل في الكون المرئي، أن يعثر على وسائل الحماية والبقاء على الحياة في كون خطير وعدائي قد ينجح في إفناء الحياة الهشة والضعيفة رغم تعقيدها.
شفق الآلهة الطويل:
تمر مجرتنا درب التبانة الآن بربيع عمرها وفي عز تألقها وشبابها تزخر بالنجوم الزرقاء والبيضاء الناصعة والمتلألئة كنجمة فيغا وسيريوس وغيرها ومنها شمسنا المتواضعة بيد أن عمر الكون المرئي بدأ قبلها وسيتمر حتى بعد شيخوختها وموتها بعد بضعة مليارات من السنين وعندما يبلغ الكون المرئي نفسه مرحلة الشيخوخة فسوف تطغى عليه إنارة الضوء الأحمر والأشعة تحت الحمراء الصادرة من نجوم صغيرة آفلة لا تكاد أن ترى بالعين المجردة ورغم ذلك فإن الفضاء المعتم للكون المرئي يبقى مهيباً ومخيفاً وجميلاً في نفس الوقت مطعماً بالعديد من الألوان والكائنات والمخلوقات المتعبثرة فيه، تفصلها مسافات مهولة تحسب ليس فقط بمليارات السنين الضوئية فحسب بل وبترليونات السنين الضوئية، ولديها ما يكفي من الوقت لكي تتأقلم وتتكيف وتتعلم من تاريخ الكون المرئي، ليس على غرار الآلهة التي خلقتها مخيلتنا البشرية القاصرة لأنه لا يوجد إله اختلقته وتخيلته عقولنا يمتلك ما لديها من قدرة كلية ومع ذلك يرنو الإنسان إلى أن يبلغ مستواها ويغدو إلهاً بدوره بالنسبة لمخلوقات أدنى منه مرتبة وتطوراً. فمايزال أمام مجرتنا الشابة ذات المائتي مليار نجمة، عمر يمتد لمليارات السنين بعد الإثني عشر مليار سنة من ولادتها إثر تراكم وتكثف الغازات الكونية الأولية التي نجمت عن الانفجار العظيم وشهدت في بطنها ولادة أجيال متعاقبة من النجوم المختلفة لكن النجوم ليست أبدية ولا سرمدية بل لديها عمر محدد يبدأ من الولادة والطفولة ومن ثم تنمو لتصل إلى مرحلة الشباب ومن ثم تشيخ وبعد ذلك تموت ليخرج من حطامها نجوم أخرى وثقوب سوداء ومواد كونية. فالنجوم التي تفوق شمسنا بحجمها مرتين أو ثلاثة تتألق أكثر منها بعشرات أومئات أو آلاف المرات إلا أن عمرها سوف يكون أقل لأنها تحرق مخزونها من الطاقة وتستهلك ما لديها من الهيدروجين بصورة أسرع، فالنجوم الحمراء العملاقة أقل عمراً من شمسنا وتشيخ قبلها بكثير ومن ثم يأتيها التأليه المميت apothéose على شكل إنهيار يشبه انفجار المسعار الكبير سوبرنوفا. وتكون مخلفاتها إما على شكل غمامة نجمية أو ثقوب سوداء في حالة كون النجوم المنفجرة ذا كتلة تزيد عشر مرات أو أكبر من كتلة شمسنا أو تتحول إلى نجوم نيوترونية أو اقزام بيضاء حسب حجم الكتلة الصغيرة والعادية والمتوسطة والعملاقة مقارنة بكتلة شمسنا. فمجرتنا درب التبانة التي بلغت إثني عشر مليار سنة من عمرها ونموها قد حولت حوالي 90% من غازها الكوني إلى نجوم، مات الكثير منها وكلما اختفت منها النجوم الزرقاء العملاقة المتألقة كلما انخفضت إشراقتها وخفتت ألوانها، ويلاحظ أن عدد النجوم المتولدة الجديدة اقل من عدد النوم المتوفية بسبب انخفاض معدلات الغازات الكونية داخل المجرة وسيميل لون مجرتنا درب التبانة مع مرور الوقت إلى الأصفر المحمر وبعد بضعة عشرات من المليارات من السنين الضوئية الإضافية لن يبق فيها ما يكفي من الغاز وسوف تصل قدرتها على إنجاب النجوم إلى الصفر وتلتحق بقافلة المجرات الآفلة المتوزعة في الكون المرئي. وبعد 6 مليار سنة سوف تقترب مجرتنا على نحو خطير بسرعة 120 كلم في الثانية بأقرب مجرة إليها والتي تبعد عنها بمليوني سنة ضوئية وهي مجرة آندروميدا المرأة المتسلسلة وستصطدم بها وسوف تمارس جاذبية آندروميدا تأثيرها على الضواحي والأطراف المترامية لمجرة درب التبانة، حيث تقع على أحد أذرعها شمسنا، وسوف تحدث قفزة أشبه بالحمى في تشكل النجوم وسوف تبتلع شمسنا من جراء هذا التصادم. ولكن قبل الوصول إلى هذه المرحلة سوف يتعين على الحضارات البشرية المستقبلية العثور على بديل ومغادرة منظومتنا الشمسية والذهاب إلى كواكب أخرى بعيدة مأهولة أو غير مأهولة لكنها قابلة لاستيعاب الحياة فوقها.
أكتشف العلماء في العقدين الماضيين أكثر من 2000 كوكب تدور حول شموسها داخل مجرتنا درب التبانة وأحدها يشبه الأرض وكأنه توأم لكوكبنا ويتمتع بكل مزايا وخصائص كوكب الأرض ويعتقد أنه يحتوي على حياة عاقلة لو تسنى لنا يوماً، من الناحية التكنولوجية الاتصال بهذا الكوكب، فقد أعلنت وكالة ناسا في الثالث والعشرين من شهر يوليو/تموز من عام 2015 اكتشاف أول كوكب شبيه بالأرض فعلًا. ويأتي هذا الاكتشاف بفضل تلسكوب كبلر الفضائي، والذي أُطلق في مارس/آذار عام 2009، واستمر في السنوات الخمس الماضية بالبحث عن الكواكب. قال دوجلاس كالدويل، رائد فضاء من معهد سيتي في ماونت فيو، كاليفورنيا، لحظة اكتشاف الكوكب «هذا أول كوكب أرضي ضمن المنطقة القابلة للسكن وحول نجم شبيه بنجمنا إلى حد كبير.» وهناك تقدير علمي بأن عدد الكواكب التي توجد في منظومات شمسية على غرار منظومتنا تعد بالمليارات وبالتالي فإن فرضية وجود حضارات كونية عاقلة وذكية ومتطورة بات أمراً معقولاً ومقبولاً وليس مجرد خيال علمي تتحدث عنه السينما وروايات الخيال العلمي بل اقرب ما يكون للحقيقة العلمية. وتقول السيناريوهات المتداولة حالياً بين أوساط العلماء أن الحضارة الكونية أو الفضائية التي تتمكن من السيطرة تكنولوجياً على تحقيق رحلات بين النجوم يمكنها أن تستعمر أغلب أجزاء المجرة التي تتواجد فيها خلال 100 مليون سنة فما فوق وهو زمن ضئيل جداً لايتجاوز رمشة عين بالمقارنة مع العمر الكوني للكون المرئي. والحال أن شمسنا ولدت في وقت متأخر داخل المشهد الكوني قبل 4.5 مليار سنة ولقد سبقها عدد كبير من الأجيال من النجوم خلال الـ 12 مليار سنة التي أعقبت ولادة الكون المرئي قبل 13.8 مليار سنة. ويفترض نشوء أنواع أخرى من الحياة ليست بالضرورة على غرار الحياة الموجودة على الأرض وقد يكون بعضها تطور إلى حضارات فضائية متقدمة تكنولوجيا يمكنها من القيام برحلات بين النجوم وبين المجرات ولو ثبتت حقيقة هذه الفرضية فسيكون لذلك تأثير كبير على مستقبل ومصير البشرية على الأرض وقلب المنظمة الأخلاقية والفكرية السائدة في الأرض على عقب. والسجال بشأن تعدد العوالم والأكوان يدور منذ خمسة وعشرون قرناً ويعود إلى حضارات عراق سومر وبابل وآشور وأثينا الإغريق ومصر الفرعونية. ففي العهد الإغريقي كانت مفردة " عالم" تنطبق على الصورة التي قدمها آرسطو وبطليموس عن الكون، وهي عبارة عن أرض مأهولة بالحياة في الوسط أو المركز ويحيط بها القمر والشمس والكواكب والنجوم البعيدة في قبة السماء، وتعدد العوالم يشير إلى وجود عدد من هذه الأكوان البسيطة التي شكلتها مخيلة القدماء. وكان هناك عدد من الفلاسفة الإغريق ماقبل سقراط مثل تاليس وهيراقليطس والفيثاغوريين والذريين وديموقريطس ولوسيب والرواقيين وآبيقور ولوكريس وغيرهم يعتقدون بوجود عوالم متعددة مسكونة بالبشر أو الكائنات الحية من أنواع أخرى وتبريرهم لذلك يستند إلى بديهية عقلانية تقول أن الكون شاسع جداً وربما لا نهائي وإن كل شيء قابل للوجود يجب أن يكون موجوداً في مكان ما، فمن العبث وجود هذا الكون الهائل فارغاً إلا من كوكب هو أصغر من ذرة غيار في صحاري العالم،هي حجم الأرض يحتوي على الحياة. وكما أقال ميترودور أحد اتباع آبيقور من العبث تصور وجود حقل من القمح فيه سنبلة واحد فقط لذا من العبث تصور الكون برمته لايوجد فيه سوى مكان واحد مأهول بالحياة هو الأرض فقط". بينما عارض الفيلسوفين اليونانيين الشهيرين أفلاطون وآرسطو هذه الفكرة وقالا بوجود أرض واحدة في مركز الكون المحدد والمحدود. وفي العصر الحديث ظهرت في الوسط العلمي مقولة الأكوان المتوازية وطرح السؤال: هل يوجد أكوان أخرى غير كوننا المرئي والمنظور الذي نعرفه ونعيش فيه؟ وهل هي أكوان منفصلة عن كوننا موازية له أو متداخلة معه لكنها غير منظورة ولايوجد لدينا أي اتصال بها وقد تحتوي على مجرات ونجوم وكواكب ويعيش على بعض كواكبها حضارات مثلنا أو مختلفة عنا؟، وقد تكون أكوان لا تخطر على بال ولايمكننا أن نتخيلها أو ندرك ونستوعب ماهيتها وجوهرها وطبيعتها.
أغلب العلماء يرد بالإيجاب ويقول نعم من الممكن وجود مثل تلك الأكوان الأخرى ربما بالمليارات وربما بعدد لامتناهي و لا يوجد من يثبت العكس، أي أن كوننا وحيد وفريد من نوعه و لا يوجد غيره في الوجود. عرفت هذه النظرية بنظرية تعدد الأكوان أو الأكوان المتعددة multivers المحتملة الوجود. المشكلة تكمن في العثور على دليل مادي وعلمي ملموس على وجودها أو على عدم وجودها والأمر سيان. وكما يقول المثل إن غياب الدليل ليس دليلاً على الغياب أو عدم الوجود. فوجود ثقوب سوداء وثقوب دودية من شأنه أن يوحي لنا بوجود أكوان أخرى وإن تلك الثقوب ما هي إلا منافذ للاتصال بتلك الأكوان وزيارتها عندما تتوفر الشروط اللازمة لذلك. وهناك من يقول أن عدد من الأكوان نجم عن الثقوب السوداء التي تجذب و تبتلع وتمتص كل ما يحاذيها ويقترب منها بما في ذلك كواكب كاملة ومواد كونية مختلفة.
- آخر تحديث :
التعليقات