شهدت رواندا في عام 1994 حرباً أهلية أدت إلى واحدة من أسوأ الإبادات الجماعية في التاريخ، حيث قُتل ما يقرب من 800 ألف شخص خلال 100 يوم، معظمهم من أقلية التوتسي على يد جماعات الهوتو المسلحة.

خلّف هذا الصراع دماراً شاملاً في البلاد بجميع مرافقها. وبعد نهاية الحرب الأهلية، تولى بول كاغامي رئاسة البلاد، ووضع أسساً واضحة لنهضة البلاد ارتكزت على مبادئ الوحدة الوطنية والمصالحة. وأطلق محاكم "غاكاكا" لتحقيق العدالة التصالحية بين الأطراف المتنازعة.

وفي النزاع السوري، وحسب تقديرات الأمم المتحدة، أدت الحرب السورية التي اندلعت منذ عام 2011 إلى مقتل أكثر من 360 ألف شخص، بينهم 87 بالمئة مدنيون. كما أدت الحرب إلى لجوء أكثر من 6.6 ملايين شخص إلى دول الجوار، ونزوح أكثر من 6.7 ملايين نازح داخل سوريا. وتُقدر التكلفة المادية للحرب السورية بأكثر من 1.2 تريليون دولار، تشمل الأضرار المباشرة للبنية التحتية والخسائر الاقتصادية الناتجة عن توقف الأنشطة التجارية والصناعية.

هذه الأرقام تسلط الضوء على التكلفة البشرية الباهظة للنزاع السوري، مما يجعلها واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث.

إنَّ تجربة رواندا في التعافي من الحرب الأهلية والإبادة الجماعية تُعد نموذجاً يمكن لسوريا أن تستلهمه لبناء مستقبل مشرق ومستدام (وخاصة بعد أن تمكن الشعب السوري من إسقاط حكم آل الأسد الذي امتد لأكثر من خمسة عقود وخلق دولة بوليسية تأكل أبناءها وتهدر مقدراتها). يمكن تحقيق ذلك من خلال بناء إرادة سياسية تخلق قيادة رشيدة ملتزمة بالإصلاح وتكون القوة الدافعة للتحول والاستثمار بالإنسان، مع التركيز على التعليم والصحة والاعتماد على التكنولوجيا وتعزيز الشراكات الدولية.

يمكن ذلك من خلال تبني ما يلي:

أولاً - قيادة رشيدة وتخطيط استراتيجي: وتقوم عبر بناء حياة ديمقراطية شفافة وتعزيز الهوية الوطنية، مع القضاء على الانقسامات الطائفية والسياسية من خلال مبادرات تهدف إلى تعزيز الشعور بالانتماء الوطني، كما فعلت رواندا بتبني هوية موحدة بعيداً عن العرق أو الدين، وحشد كل التنظيمات المسلحة تحت لواء جيش وطني واحد. وبناء البلديات الذكية في جميع المناطق السورية من خلال تطوير بنية تحتية رقمية تعتمد على إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي لتحسين الخدمات العامة، مثل إدارة النفايات، الإضاءة، والنقل. كما يمكن تعزيز الشفافية والمشاركة المجتمعية عبر بوابات إلكترونية وتطبيقات تسهّل تواصل المواطنين مع الجهات المحلية وتدعم اتخاذ القرارات بشكل فعّال. وإنشاء محاكم عدالة تصالحية تعتمد نموذج "غاكاكا" الرواندي لتسوية النزاعات وتحقيق العدالة الاجتماعية، مما يساهم في طي صفحة الماضي.

ونظام "غاكاكا" الرواندي هو آلية عدالة تقليدية تم استخدامها بعد الإبادة الجماعية عام 1994 لمعالجة العدد الكبير من القضايا الجنائية بسرعة وتعزيز المصالحة الوطنية. تُدار المحاكم من قبل قادة محليين ويتمحور عملها حول الكشف عن الحقيقة، محاسبة الجناة، وتشجيع الاعتراف والصفح بين أفراد المجتمع. وساعدت "غاكاكا" في محاكمة أكثر من 1.2 مليون قضية خلال 10 سنوات، مما ساهم في تقليل الاكتظاظ في السجون وإعادة بناء النسيج الاجتماعي. رغم نجاحها في تعزيز الوحدة الوطنية، واجهت تحديات تتعلق بالكفاءة القانونية والتأثير النفسي على الضحايا. يُعتبر هذا النظام نموذجاً مُلهماً يمكن لدول أخرى تطبيقه لتحقيق العدالة والمصالحة بعد النزاعات.

إقرأ أيضاً: الابتكار المستمر سر التفوق

ثانياً - الاستثمار في الطاقة النظيفة والتنمية المستدامة: تقوم بتنويع مصادر الطاقة، مع التركيز على الطاقة الشمسية والرياح، حيث تمتلك سوريا موارد طبيعية غنية في هذا المجال. ويشمل ذلك تعزيز كفاءة الطاقة من خلال الاستثمار في تقنيات تخزين الطاقة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتوفير الطاقة بأسعار معقولة للمواطنين، بالإضافة إلى الاستثمار في الغاز وإعادة تأهيل حقول البترول مرحلياً.

ثالثاً - تطوير التعليم والجامعات والقطاع الصحي: يتطلب ذلك إنشاء شراكات مع جامعات عالمية لتطوير المناهج التعليمية واستقدام خبرات دولية إلى الجامعات السورية. كما يشمل استخدام التعليم الرقمي لتعويض الفجوة التعليمية الناتجة عن الحرب وتوسيع نطاق التعلم ليصل إلى المناطق النائية. يتضمن ذلك أيضاً تمويل الأبحاث في مجالات الطاقة، التكنولوجيا، والزراعة لتطوير الحلول المحلية وتحقيق الاكتفاء الذاتي. أما في القطاع الصحي، فيمكن إعادة بنائه عبر رقمنة النظام الصحي، تعزيز الرعاية عن بُعد، وبناء بنية تحتية ذكية تشمل تجهيز المستشفيات وتدريب الكوادر الطبية.

إقرأ أيضاً: الاستعداد لعصر الذكاء الاصطناعي

رابعاً - الاستثمار في الزراعة والصناعة والسياحة الذكية: يشمل ذلك تطبيق تقنيات الزراعة المستدامة، استخدام تقنيات الري الحديث والزراعة الدقيقة لتقليل استهلاك المياه وزيادة الإنتاجية، واستخدام الطائرات بدون طيار لمراقبة المحاصيل واكتشاف الأمراض. كما يمكن تنمية المناطق الريفية عبر تقديم دعم مادي وفني للمزارعين لزيادة الإنتاج وتطوير سلاسل التوريد. وفي مجال الصناعة، يمكن توطين صناعات نوعية متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة. أما القطاع السياحي، فيحتاج إلى تطوير شامل واستثمار مستدام.

خامساً - توظيف الذكاء الاصطناعي وإنشاء حكومة ذكية: يشمل ذلك إدارة الأزمات باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات المتعلقة بالنزاعات وإدارة الموارد لتحقيق الاستقرار. يمكن أيضاً تطوير منصات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لربط المزارعين والمصنعين بالأسواق المحلية والدولية، إضافة إلى تبني الذكاء الاصطناعي في القطاعات الحكومية لتبسيط العمليات وتحسين الكفاءة.

إقرأ أيضاً: كيف تصبح عداءً رقمياً؟

سادساً - بناء الاقتصاد الدائري: يرتكز على إعادة التدوير وتقليل الهدر عبر إنشاء صناعات تعتمد على إعادة تدوير المواد مثل البلاستيك والمعادن، مما يقلل النفايات ويوفر فرص عمل. ويتضمن ذلك تصميم منتجات وخدمات تدعم إعادة الاستخدام وتقليل الهدر، خاصة في قطاعات مثل البناء والزراعة. كذلك، تعزيز الاقتصاد المحلي عبر دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على الموارد المتجددة.

يقول بول كاغامي، رئيس رواندا وقائد نهضتها: "لا يمكننا أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء أو نمحو الأذى الذي حدث، ولكن لدينا القوة لتحديد مستقبلنا وضمان أن ما حدث لن يتكرر مرة أخرى".