في الوقت الذي تناقش فيه مراكز العالم البحثية وجامعاته ومطبوعاته الرصينة تراجع القيم الليبرالية، وتطلق الدعوات من أجل الدفاع عنها والمساهمة في تأصيلها وتجديدها، مازالت الليبرالية في العالم العربي بحاجة لشرح مفاهيمها وقيمها ليس للقارئ العادي بل لخريجي الجامعات والنخب الثقافية والسياسية أيضاً.
إذ عانت الليبرالية العربية من منتسبيها، أو الذين يحسبون أنفسهم عليها، أكثر مما عانت من خصومها الذين يخاصمونها -أيضاً- دون فهم لجوهرها الذي يعلي من قيمة الإنسان، ويجعل من صون حريته وسبل عيشه وحقه في الاختيار هدفاً للإنسانية. بل إن القوانين التي جاءت انعكاسا للقيم الليبرالية جعلت هذه القيم حدودا لا تقترب منها السلطات، لا تنتهك ولا ولا تمس ويحميها القانون.
إن الحرية التي تعتبر أحد قيم الليبرالية الأصيلة، بل هي أحد أسسها الفلسفية، كانت دوما النقطة التي يفشل في اجتيازها الجميع في العالم العربي. وإذ لا أتحدث عن أعداء الليبرالية من الأنظمة الشمولية التي جعلت الحرية شعاراً وحولت مدلول المفردة في ذهن عامة الناس إلى شيء ترتكب باسمه الجرائم، بل أتحدث عن الليبراليين العرب إذا كان لهم وجود.
وإذا كانت الممارسة السياسية مقفلة أمام الجميع، منذ الانقلاب على محمد نجيب الذي شكل ملامح مشروع ليبرالية اجتماعية وئد في مهده، من جناح الثوريين الانقلابين الذين فرخوا نماذج مطابقة لهم على امتداد العالم العربي، فإن ما يمكن التوقف عنده هو الممارسة الليبرالية في الوسط الثقافي-الصحافي العربي الذي نقل هذا المفهوم وروج له ونما في محيطه.
عند حرية التعبير يتلعثم الجميع، ليس السلطات وحدها من تفشل في هذا الامتحان، بل ضحاياها أيضاً، الذين يقعون ضحية هذه السلطات نتيجة تعبيرهم عن رأيهم الذي يخالفها أو ينتقدها. لم ينتج هؤلاء الضحايا أدبيات سلوكية تكرس حرية التعبير وتدافع عنها وتجعلها خطاً لا يمكن المساس به. وإذ من السهل فهم سلوك السلطات التي ترى في حرية التعبير خطراً على استمرار حكمها، الذي ينتهك حقا أساسيا للإنسان باختيار من يحكمه، فإن من الصعب فهم سلوك ضحايا هذه السلطات في النقطة ذاتها!
لم يكرس الحقل الثقافي العربي – ناهيك عن السياسي- سلوكيات جماعية ولا حتى فردية تدافع عن قيمة حرية الفكر والتعبير، وسترى دون حاجة كبيرة للبحث أن هذه القيمة نمت في كتاباته لا في سلوكه. إذ يندر أن تجد مثقفا ليبرالياً مارس اعتقاده الذهني بحرية التعبير سلوكاً، ليس خلال ممارسة السلطة التي تحصل عليها بعضهم حتى وإن كانت سلطة رئيس تحرير لمجلة، بل من خلال قبوله مجرد نقد أعماله الكتابية. ففي الوقت الذي يطالبون فيه السلطات دائما بقبول الرأي المختلف تحت يافطة حرية التعبير عن هذا الرأي التي تكفلها الدساتير الشكلية عادة، فإنهم كانوا على الدوام وبالعموم وباستثناءات قد لا نجدها إلا بعد بحثٍ مضني، يمارسون آليات السلطات نفسها في مواجهة الرأي المختلف. وقد لفت انتباهي فقرة في ميثاق الشرف المهني للصحفيين السويديين تقول "إن هؤلاء الذين يضعون المجتمع تحت الرقابة والفحص عليهم أن يكونوا قادرين ومستعدين لتحمل الرقابة والفحص أيضا." إذن فالليبراليون العرب كانوا يضيقون بالرأي المختلف في حدوده المهنية، قبل أن نطالبهم بانعكاس القيم الليبرالية التي يتبنوها في سلوكها، والتي تعلي من قيمة الحرية.
وإذا كانت الحرية عصب الليبرالية، فإنه لا معنى للحرية دون حرية الفكر والتعبير، وعند هذه النقطة في العالم العربي تتساوى السلطات التي لا تؤمن بالليبرالية في شقها السياسي والفكري والليبراليون الذي يعارضون تلك السلطات. فقد شهد التاريخ السلوكي للكتاب الليبراليين العرب تحريض للسلطات ضد جماعة أو تيار أو فرد بمبرراتٍ شتى لأنهم يخالفونهم الرأي.
السجال الدائم بين الليبراليين العرب وخصومهم يكاد يتركز في نقطة واحدة تتعلق بالمرأة! فالليبراليون ينادون بحقها في السفور، بينما ينادي خصومهم بحقها في التحجب! ويجادلون بأن الليبراليين يدعون للانحلال، فيرد أولئك بأن هؤلاء يريدون تحجيب العقل. لا أناقش هنا أفكار ممن يحسبون خلطا على الليبرالية من قوميين ويساريين وعلمانيين وملحدين لا ليبراليين، فهؤلاء في عالمنا العربي كانوا بعمومهم إما نتاج الأنظمة أو منضوين تحت جناحها أو حالمين بسلطتها لممارسة التنكيل ذاته بكل من يخالفهم.
يمكن القول أنه لم يكن هناك جدل حقيقي حول حرية التعبير. حرية التعبير تعني المختلف، فالمتشابه مع سياق السلطة أيّأً كانت هذه السلطة حتى في الحيز الاجتماعي، لا يحتاج تدخلا حمائيا، لا من حكومة ولا من فرد ولا من جماعة.
ويمكن القول أيضاً أن حرية التعبير وجدت أنصاراً بالتبني في أوساط الليبراليين العرب، لكنها لم تجد أنصاراُ في السلوك. فالتحريض على الجماعات السياسية المختلفة مع سلطة الدولة أمر شائع، والتحريض على صاحب رأي كسر تقليداً أو عرفاً اجتماعياً أمر شائع، والتحريض على من يمارسون حرياتهم الفردية بما لا يخالف القانون أمر شائع! ودعوة السلطات للتضيق على حرية التعبير أمر شائع. بل إن هذه المبررات التحريضية تستند على تمثل السلطة، تمثل دورها في حماية المجتمع.
والحال هذه يصبح مفهوماً تضاءل التضامن مع الذين يفقدن حريتهم بسبب آرائهم، ليس فقط لأن الليبراليين العرب لم يشكلوا قوة مؤثرة، حتى في تنظيم أي مستوى من الاحتجاج، وليس فقط لأن التضامن نفسه مجرم من السلطات، بل أساساً لعدم مركزية فكرة حرية التعبير في الممارسة الليبرالية العربية، فما بالك إذا كان من فقد حريته بسبب رأيه مخالفا لهم بالرأي أيضاً.
في الوقت الذي صار فيه من لا يؤيد زواج المثليين في الغرب يحسب على الليبرالية المحافظة، فإن الليبراليين العرب مازالوا بحاجة لمزيد من الوقت والنقاش لتكريس قيمة أساسية من قيم الليبرالية هي حرية التعبير.