علينا أن نشير في البداية إلى أن الليبيرالية نشأت كنقيض للنظريات الدينية، والنظريات المحافظة التي كانت تتقيد بها النظم الملكية في أوروبا. وهو تمثل الجانب السياسي والاقتصادي لفلسفة الأنوار التي مهدت لاندلاع الثورة الفرنسية، ولجميع الثورات التي نادت بضرورة احترام حقوق الانسان، وفصل الدين عن الدولة، وإقرار العدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق وفي الواجبات. ويقرّ احد فصول الدستور الفرنسي الذي صدر بعد الثورة بأنه سيكون من حق كل شخص مستقبلا ممارسة ما يراه صالحا ونافعا سواء كان تجارة أم مهنة ام فنا. وكل ما يعارض هذا المبدأ، يتعبر مسا بحقوق الانسان. وفي "The road of serfdom "، يشير فريدريك هايك إلى أن الليبيرالية الاقتصادية تعني أن أن لكل شخص الحق في شراء وبيع أي سلعة يريد من دون أن تتدخل الدولة في ذلك. لذلك تعتبر كل محاولة للحد من هذه الحرية اعتمادا على مبادئ دينية أو فلسفية أو سياسية مناقضة لهذا الحق. ويرى كبار منظري الليبيرالية الاقتصادية، وأيضا كارل ماركس، مؤسس النظرية الاشتراكية، أن هذه الليبيرالية لا يمكن أن تكتسب قوتها الاّ بتجاوز الحدود سواء كانت هذه الحدود جغرافية أ و أخلاقية أم سياسية أم غيرها. لذلك سمحت الدول والامبراطوريات التي يقوم اقتصادها على الليبيرالية الاقتصادية مثل فرنسا وبريطانيا، لنفسها ببسط نفوذها السياسي على العديد من البلدان في افريقيا وآسيا. واعتمادا على الليبيرالية الاقتصادية والسياسية بعثت الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة العالم الليبيرالي والرأسمالي برنامج "مارشال" لإعادة بناء دول أوروبا الغربية المتضررة من الحرب الكونية الثانية.

&وفي مطلع التسعينات من القرن الماضي، بعد انهيار جدار يرلين، والكتلة الاشتراكية بزعامة ما كان يسمّى بالاتحاد السوفياتي، أصدر المفكر الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما كتابا حمل عنوان:" نهاية التاريخ والرجل الأخير". وفي بضعة أسابيع حصل الكتاب على شهرة عالميّة واسعة، وأصبح صاحبه مرجعا أساسيا في مجمل ما يتعلق بالواقع العالمي الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة، واضمحلال الأنظمة الشيوعيّة الشموليّة.
وقد اعتبر النقاد، والمهتمون بالفكر السياسي، أن الكتاب المذكور تمجيد للديمقراطية في مظهرها الليبيرالي المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الدول الغربيّة الرأسماليّة بصفة عامة، مشيرين الى أن هذا النمط من الديمقراطية سيكتسح كل دول العالم بقطع النظر عن لغاتها وأديانها، وتاريخها، وموقها الجغرافي، وانتمائها القومي، ومستوى اقتصادها ومعيشة شعبها. إلاّّ أن هذا التوقع بدأ يعرف هبوطا وانحسارا خلال العقد الأخير. فقد ظهرت في اوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية أحزابا وتنظيمات شعْبوية ترفض الديمقراطية القديمة الداعية للتسامح والانفتاح على الآخر وفتح الأبواب أمام المهاجرين الفارين من الجوع أو من الاستبداد. بل أن هذه الأحزاب تطالب بطرد كل المهاجرين المسلمين بدعوى أنهم جميعا مناصرون للعنف والتطرف والإرهاب.
الأحزاب الشعبوية واليمينية صعودا مدويا في أغلب البلدان الأوروبية. بل أنها أصبحت تحكم في كل من ايطاليا والمجر والنمسا وتشيكيا. وقد تصعد إلى السلطة في المستقبل القريب في بلدان أخرى. لذلك لم يتردد البعض من المفكرين في الإشارة إلى أن البلدان الغربية الغنية والمتفوقة اقتصاديا " تعيش راهنا" فوق بركان" قد ينفجر في أية لحظة ليعيش العالم مجددا كوارث ونزاعات ربما تكون أشد خطرا وهولا من تلك التي عرفها خلال الحربين الكونيتين.
ولعلّ التفاسير الأولى التي قدمت حول مفهومه للديمقراطية في كتابه المذكور بدت لفوكوياما "تعسّفية ".لذلك أصدر كتابا جديدا حمل عنوان :”جذور النظام السياسي". وأعتقد أن منظري ما يسمى ب"الربيع العربي" مطالبون قبل غيرهم بقراءة جديّة لهذا الكتاب المهم فلعله ينفعهم، ويفيدهم، وينبههم الى الأخطاء الفادحة التي ارتكبوها، والتي حوّلت ربيعهم الى شتاء شديد القتامة والبرودة!
و الديمقراطيّة هي المحور الاساسي في كتاب"جذور النظام السياسي". وأول ما ينبهنا اليه فوكوياما هو أن الديمقراطية ليست عملية سهلة ضامنة لحدوث استقرار فوري في هذا البلد أو ذاك، وإنما هي عمليّة شديدة التعقيد، محفوفة بمخاطر جسيمة.وإذا ما كانت فاقدة للشروط الضامنة لنجاحها، فإنها سرعان ما تنطفئ وتفشل. وقد يؤدّي فشلها الى انهيار الدولة ومؤسساتها وبالتالي الى العنف، والى الفوضى العارمة التي لا يسلم منها لا أنصارها ولا المعادون لها! وهذا ما حدث في العديد من البلدان الافريقيّة، وفي بلدان ما يسمى ب"الربيع العربي". فقد سقطت الأنظمة التي كانت تعتبر "فاسدة"، و"معادية للديمقراطية "، إلاّ أن الديمقراطية لم تتحقق فيها بصفة فورية،بل ازدادت الاوضاع تعقيدا وفسادا عل جميع الاصعدة خاصة بعد ان استغلت الحركات الجهادية والتكفيرية الفراغ الهائل الناتج عن سقوط الانظمة الآنفة الذكر لكي تشرّع العنف والارهاب والجريمة في ابشع وافظع اشكالها. لذلك لا يمكن للديمقراطية أن تنشأ على أسس قويمة الاّ في ظلّ دولة مركزية قويّة، ومهابة الجانب، وقادرة على فرض احترام القوانين، وعلى تطبيقها على الجميع من جدون أيّ استثناء.
ويشير فوكوياما الى ان الولايات المتحدة الامريكية عرفت الديمقراطية قبل قيام الدولة المركزية القوية. وكان لا بدّ من حرب اهليّة مدمّرة، ومن عقود طويلة من الاصلاحات الإدارية، ومن التشريعات الضامنة للاستقرار لكي تتحقق الديمقراطية بصفة ناجعة وفعليّة. اعتمادا على هذا، يمكن القول بإن الأب الحقيقي للأمة الامريكية ليس جورج واشنطن، ولا ابراهام لنكولن،وإنما تيودور روزفلت. وقد تكون الحرب مفيدة لقيام دول قوية. وهذا ما حدث في اوروبا الغربية بعد الحربين العالميتين. غير انها قد تكون مدمرة، ومخربة للدولة ومؤسساتها مثلما هو الحال في العراق وافغانسان. وتمتلك الصين دولة مركزية قوية. وهذا ما يجعل فوكوياما يرجح أن تقوم الديمقراطية على أسس قويمة في هذه البلاد رغم أن النظام فيها لا يزال يتصدى بقوة وعنف الى كل ما يرفع صوته للمطالبة بها.
وبخصوص العرب، يمكن القول أنهم لم يعرفوا أي شكل من أشكال الليبيرالية الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية. وقد حاولت بعض الأنظمة أن تنسب نفسها لليبيرالية إلاّ أنها فشلت في مسعاها فشلا ذريعا. والسبب في ذلك يعود إلى القيود الأخلاقية والدينية التي لا تزال مسيطرة على المجتمعات العربية وفيها تتحكم بحيث يبدو التخلص منها صعبا. وما دامت هذه القيود قائمة فإن الحديث عن ليبرالية يبدو بلا فائدة ومن دون أي مفعول.

*كاتب تونسي