انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من مجلس حقوق الانسان ليس بالتأكيد خبراً عادياً رغم أنه غاب وسط انشغال العالم بأحداث أخرى. المبرر الأمريكي للانسحاب كان انحياز المجلس ضد إسرائيل وشن حملة ممنهجة ضدها، حيث وصفت نيكي هايلي المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة المجلس بأنه "منظمة منافقة وأنانية تستهزأ بحقوق الانسان، والانسحاب لم يكن مفاجئا لأن هايلي قد هددت العام الماضي بأن واشنطن ستراجع عضويتها وربما تنسحب ما لم يتوقف ما وصفته بالانحياز المزمن ضد إسرائيل!

الحقيقة أن علاقة الولايات المتحدة كانت تتعارض في أحيان كثيرة مع مجلس حقوق الإنسان، إذ قررت إدارة بوش مقاطعة المجلس عندما تأسس في عام 2006 لأسباب تكاد تشبه التي ذكرتها إدارة ترامب. وكان سفير الأمم المتحدة آنذاك، جون بولتون، الذي يشغل حاليا منصب مستشار الأمن القومي للرئيس ترامب، ينتقد بشدة للأمم المتحدة. ولم تعد الولايات المتحدة للمجلس إلا في عهد الرئيس باراك أوباما، عام 2009.

مجلس حقوق الانسان الذي تأسس في 2006 ليحل محل مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بات يواجه مصيراً مشابها لمصير المفوضية، وللمفارقة بذات الأسباب والمبررات، حيث كان الانتقاد الأكبر لها هو السماح لدول يعتبرها البعض صاحبة سجل ضعيف في مجال حقوق الانسان، بالانضمام للمفوضية السابقة.

وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو وصف مجلس حقوق الانسان في تعليقه على قرار انسحاب بلاده، بأنه "مدافع ضعيف عن حقوق الانسان"، ولاشك أن غياب الولايات المتحدة عن أي منظمة دولية يعني تأثيراً سلبياً بالغاً في فاعلية هذه المنظمة، ويقوض فرصها في تنفيذ أجندتها وتحقيق أهدافها، وهذه حقيقة يجب التسليم بها سواء اتفقنا او اختلفنا مع مبررات الانسحاب الأمريكي، فواشنطن هي من تمتلك أدوات الضغط وتنفيذ قرارات المنظمات الدولية سواء بحكم مكانتها وقوتها وهيمنتها على النظام العالمي القائم، او من خلال الأدوات التقليدية الأخرى مثل المنح والمساعدات وصولاً للقوة العسكرية إن تطلب الأمر ذلك.

وبالتالي فإن الحديث عن قرارات وتوصيات عن المنظمات الدولية في غياب الولايات المتحدة يبقى في مربع التوصيات البعيدة عن سلطة الضغط والتنفيذ حتى في وجود قوى دولية مؤثرة مثل روسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي الكبرى، لأسباب واعتبارات معقدة بعضها يتعلق بأدوات الضغط وبعضها الآخر يتعلق بتفادي بعض هذه القوى توظيف قدراتها وسياساتها في تطبيق سياسات وقرارات الأمم المتحدة ومنظماتها.

القرار الأمريكي ينسجم تماماً مع توجهات إدارة الرئيس ترامب في العلاقات مع إسرائيل، لذا فإن تل أبيب كانت العاصمة الوحيدة التي رحبت بالقرار الأمريكي. ولكن القرار ينطوي على أبعاد أخرى تتعلق بمجمل سياسات الإدارة الأمريكية حيال المنظمات الدولية والاتفاقات والتفاهمات التي سبق التوقيع عليها من جانب إدارات أمريكية سابقة؛ حيث يبدو واضحاً أن هناك مراجعات للكثير من هذه الأطر المؤسسية، والمسألة تتجاوز فكرة دعم إسرائيل فمؤخراً، سحب الرئيس ترامب موافقة الولايات المتحدة على البيان الختامي المشترك الصادر في نهاية قمة الدول الصناعية السبع الكبرى، واتهم كندا، أحد أهم حلفاء بلاده بعدم التحلي بالنزاهة!

هناك ملامح حرب تجارية عالمية تستعد لها الدول الصناعية، وهناك فرض متبادل للتعريفات الجمركية على الواردات، وهناك انحسار متسارع لمبدأ التجارة الحرة العادلة، وتصاعد في وتيرة السياسات الحمائية، ما يعني بالتبعية تقويض أحد اهم ركائز التجارة التي قامت عليها منظمة التجارة العالمية التي تمثل أحد أجنحة النظام العالمي الجديد!

الرئيس ترامب ينظر لمسألة التجارة الحرة من منظور مغاير للإدارات الأمريكية السابقة، ويطالب بإلغاء التعريفات الجمركية بين دول مجموعة السبع الصناعية، ويشير إلى أن "الولايات المتحدة جرى استغلالها لعقود وعقود"، واصفا إياها بـ حصالة نقود يواصل الجميع سرقتها"، وقال الرئيس ترامب إن التعريفات الانتقامية من حلفائه ستكون "خطأ"، وحذّر من أنه إذا وصل الأمر إلى حرب تجارية فإن الولايات المتحدة "ستفوز بتلك الحرب".

على الجانب الآخر تستعد بعض دول المجموعة لفرض تعريفات على الواردات الأمريكية من السلع، فبعد فرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية بنسبة 25 في المئة على واردات الصلب و10 في المئة على واردات الألومنيوم من الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، أعلن الاتحاد الأوروبي عن فرض تعريفات جمركية مضادة على بضائع أمريكية. كما اتجهت الصين وكندا والمكسيك إلى اتخاذ إجراءات مضادة مماثلة، وهذه الفجوة في التفكير بين قادة المجموعة لن يتم ردمها بسهولة ولن يتم التوافق بشأن نقاط الاختلاف بالسهولة التي يتوقعها البعض، ومن الصعب توقع إمكانية بناء تفاهم وشيك حول هذه النقطة الخلافية التي تهدد التوافق الدولي حول مجمل قضايا الأمن والاستقرار العالميين.

أحد أهم أسباب تعثر أي توافق حول التجارة الدولية أن الرئيس ترامب مصمم على أسلوب جديد في التجارة الدولية، وهو يتحدث في هذا الملف انطلاقاً من خبرة كبيرة كرجل اعمال، رفع خلال حملته الانتخابية شعار "أمريكا أولاً"، وتؤكد استطلاعات الرأي الأخيرة ارتفاع شعبيته، ما يعني أنه يمضي على الطريق السليم شعبياً، وهذا هو الأهم بالنسبة له، فنمو الاقتصاد العالمي ككل لا يعنيه ما لم يتوافق مع عوامل نمو الاقتصاد الأمريكي.

بعض الدراسات تؤكد أن الحماية الاقتصادية تؤدي في النهاية إلى تقليص فرص العمل وارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلك، ولكن ترامب يرى أن ذلك الأمر مرهون بإلغاء كل التعريفات الجمركية وضمان تدفق تام، فهو لا يرى سوى حاجة الأسواق الأمريكية إلى فرص عمل غائبة بسبب استيراد السلع الرخيصة من الخارج! فهو يعتقد أن التجارة الحرة في مصلحة الاقتصادات النامية وعلى حساب الاقتصادات الكبيرة.

يقول بعض الخبراء أن الرئيس ترامب لا يهتم بالمخاطر الاقتصادية على المدى الطويل بقدر اهتمامه بحقائق المدى القصير، ولكن اعتراف منظمة التجارة العالمية مؤخراً بأن الأرباح من حرية التجارة "غالبا هي غير متساوية"، تبرر موقفه في نظر الكثيرين داخل الولايات المتحدة. وهناك من يرى أن سياسة الرئيس ترامب انتقلت من "أمريكا أولاً" إلى شعار "أمريكا تقرر" وتحدد أسلوب التجارة، ولكن كل هذه الانتقادات لا تهم البيت الأبيض كثيراً، فالرئيس ترامب يعيد تموضع بلاده ضمن هيكلية النظام العالمي القائم ويعيد كتابة القواعد والمعايير الحاكمة لهذا النظام.