إن صح ما تناقلته وسائل الإعلام, من أنه قد لا يكون هناك "موسم اصيلة ثقافي" للعام القادم, بعد ان اكمل من عمره اربعون عاما, فتلك جناية ثقافية, بل جريمة مكتملة الأركان.

جريمة بحق المغاربة (اهل المغرب العربي), وجريمة بحق المشارقة (أهل المشرق العربي).

نحن الضحايا.. وربما الجلاد في آن. والمتهم هو نقص الموارد التي باتت شحيحة حتى تملكتها جرأة وقحة تهدد به صرحا عملاقا في عمره ومكانته.

قالت كتبنا, ومدارسنا وشيوخنا ومنابرنا, منذ يفاعتهم ويفاعتنا, ان العالم العربي هو وطن واحد من المحيط الى الخليج. وكم غنينا بلاد العرب اوطاني من نجد لتطوان؟ غير أن الحقيقة خلاف ذلك. نحنلسنا وطنا واحدا. ممزقون الى امم كثيرة, وثقافات أكثر, رغم قاسم اللغة والدين المشتركين. انقسامنا في وطننا المشرقي هو اكبر من حجم المحيط عن وطننا المغاربي. فأكثرنا لا يعرف شيئا عن الآخر, حتى في مفرداته, إلى درجة أن جل الوسائل الإعلامية المشرقية, سيما المرئية منها, تترجم بعض الأفلام والمسلسلات وحتى اللقاءات المغاربية الى اللغة العربية, وكأن ما ينطق به هؤلاء هو لغة إغريقية, او فينيقية. ويعود ذلك الى قلة التواصل, وانعدام جسور الثقافة الرابطة بين شطري الوطن العربي الذي ليس هو بواحد. اعطوني اسم مؤسسة عربية عنيت بتعريفنا بثقافة بعضنا, وبآدابنا وفهم الشارع هنا وهناك. نحن نجهل عادات تونس والجزائر والمغرب. وهم يجهلون بالمثل عاداتنا وطريقة معيشتنا وأفكارنا. إن كان من مؤسسة واحدة, واحدة فقط, عنيت بالأمر فسأقول هي مؤسسة"منتدى اصيلة الثقافي" في المغرب, والتي كان من ضمن ما اهتمت به, مد جسور التواصل مع العالم العربي المشرقي, دون ان تنسى امتدادها الإفريقي أيضا.

وللحق أقول بأني منذ عرفت اصيلة من سنوات عديدة, قد رأيت حجم وعدد من استضافتهم من شخصيات ادبية وفكرية وثقافية مشرقية, اعظم واكثر عددا وأهمية مما استضافته مؤسساتنا المشرقية لكتاب ومفكرين ومثقفين مغاربة. منارة "منتدى أصيلة" كانت الهادية لسفن ثقافية ضلت طريقها في بحر متلاطم وعنيد يحول دون معرفتنا بالآخر. ولعل هذا ما جعل من تلك المدينة الصغيرة المستلقية بدلال على شواطئ الأطلسي, محط انظار وحضور عدد كبير من الرموزالشعاعية العربية, الفكرية والشعرية وحتى السياسية, على اختلاف الوانها ومشاربها, مع رغبة راحت تنمو كل يوم لاكتشاف بعضنا المجهول لبعضنا المجهول الآخر.

أليس جريمة ان ينتهي كل ذلك؟

وفوق أن "منتدى أصيلة" يمم وجهه شطرنا في المشرق, وفوق انه حارب التفرنج, والإنصهار المغاربي في البوتقة الغربية, فهو المؤسسة الإعلامية التي تكاد تكون وحيدة في العالم العربي, التي ما تزال قائمة حتى اليوم بمجهود مؤسساتي يقوده بضع أفراد لا أكثر.

أليست جناية في حقنا ان تهدر الملايين على مهرجانات سطحية التأثير والعمق والثقافة, وننسى اصيلة بكل ما قدمته وبنته من جسور تواصل فكرية وثقافية مع بعضنا؟

نعم, لقد كانت هناك مساهمات سخية من الإمارات, والسعودية, والكويت, للمؤسسة, لكن ما قدمته هذه الدول, وغيرها, يحتاج الىأن يستمر, وهذا أولا, وثانيا أن تكون هناك يد دائمة ترعاه. يد طولى وراسخة الإيمان بالقيمة الإنسانية العظيمة لمؤسسة كهذه.

ولئن كان السيد محمد بن عيسى, الذي شغل منصل وزير خارجية المغرب ووزارة ثقافته, هو الوتد الذي تتكئ عليه "مؤسسة أصيلة" اليوم, كونه أمينها العام, فإن إبن عيسى ليس أيقونة خالدة, وليس رجلا لا يموت. نحن نحتاج إلى نسخ عديدة من إبن عيسى, كي لا تقع الجريمة. رجل واحد, او متبرع واحد, او عاشق واحد, لن يستطيع ان يضمن بقاء صرح ثقافي كهذا على قيد الحياة. هي مسؤولية مشتركة, وواجب على كل عربي, من أصغر فرد فيه, إلى اكبر مسؤول, لإبقاء تلك المنارة الثقافية شعلة لا تحارب الظلمة وحدها.

الثقافة, والثقافة أولا, هي العنصر الحقيقي لتقارب الأمم. ولئن كان استسلام منبر ثقافي عتيد امام شح الموارد ونقص الإمكانات ليس بجريمة بحق أنفسنا وثقافتنا, فلا أعرف ما تكون الجريمة إذا.

 

هاني نقشبندي

[email protected]