مراد عباس من الجزائر: يعتبر مشروع الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية المعروض على الشعب الجزائري للاستفتاء غدا ليس إلا فصلا من فصول الصراع الدائر في العلن حينا وفي الخفاء أحيانا أخرى بين السلطة والمعارضة الجادة ممثلة خاصة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة.

فالمشروع الذي طرحه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يوم 14 آب / أغسطس أمام إطارات الأمة لا يعدو أن يكون مجرد وصفة بلورتها السلطة في مخابزها بحيث تمكنها من تجاوز الأزمة دون أن تتحمل تبعات أكثر من عشرية من الزمن فقدت خلالها البلاد أكثر من 150 ألف ضحية كما قال الرئيس بوتفليقة في خطابه ما قبل الأخير. فالنظرة المتأنية للمشروع المعروض للاستفتاء تبرز بجلاء كيف أن السلطة تسعى إلى تحميل حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة وزر الأزمة وتبعاتها لوحدها..

والواقع أن هذا المنطق هو الذي سار عليه مختلف الفاعلين السياسيين في الجزائر منذ اندلاع الأزمة في الجزائر مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حيث لم يتورع أي من طرفي الصراع السلطة من جهة وأحزاب المعارضة الجادة وفي مقدمتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة ومعها جبهة القوى الاشتراكية التي يقودها الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد اللاجئ اختياريا في سويسرا وجبهة التحرير الوطني أيام الزعيم التاريخي الآخر الأستاذ عبد الحميد مهري من جهة أخرى، لم يتورع أي من الطرفين في استعمال ما في جعبته من وسائل ضغط لإخضاع الآخر.

فالجبهة الإسلامية التي اكتسحت الشارع الجزائري في أيام نشأتها الأولى لم تهادن السلطة ولو مرة واحدة وراحت تهددها بحشود مناضليها قصد حملها على التنازل في كل مرة، وهو ما حصل، لكن عندما وصل الأمر إلى درجة تهديد السلطة نفسها في وجودها انتفضت واستجمعت قواها ومارست على الآخر كل أشكال الإقصاء والتهميش والتقزيم باستعمال إمكانيات الدولة ضمانا لاستمرارها
حتى وإن كانت الخطابات التي روجت في ذلك الوقت قدمت على أنها ضمان لاستمرار وجود الدولة.

المعارضة وعندما وجدت أن التحديات تفوق طاقاتها وإمكاناتها لم تتورع في الإلتقاء على موقف واحد من السلطة وكان ذلك في منتصف التنسعينيات فيما عرف يومها بعقد سانت إيجيديو بالعاصمة الإيطالية روما، أين التقت مختلف الحساسيات السياسية على صياغة تصور سياسي لحل الازمة الجزائرية، مع ضرورة مواصلة الضغط على السلطة بكل ما أوتيت من قوة قصد حملها على تبني خيار الحوار كحل أمثل للخروج من الأزمة، غير ن تلك المبادرة التي شهد العالم على أهميتها لم تكن لتغير في موقف السلطة بل استطاعت هذه الأخيرة أن تحول الهزيمة إلى انتصار، عندما راحت تتهم أصحاب العقد بأنهم باعوا ضميرهم لأطراف أجنبية مشبوهة، بل ووصل الأمر إلى اتهام شخصيات عرفت بنضالها وجهادها من أجل تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي مثل عبد الحميد مهري وحسين آيت أحمد واحمد بن بلة بالخيانة وغيرها من عبارات الشتم والتجريح تم تسويقها عبر مختلف وسائل الإعلام الرسمية.

لكن هذه التجربة علمت السلطة كيف تشتت المعارضة حتى لا تلتقي على موقف واحد تجاهها، بل إنها عمدت إلى إضعاف الجبهات الثلاث من خلال اختراقها وبث النزاعات فيها، حيث لم تغفر ذلك لمهري وأسقطته من على ٍٍرأس الأمانة العامة للحزب في سنة 1996 في مشهد كاريكاتوري، ونفس الشيء قامت به مع حزب آيت أحمد الذي شهد حزبه تململا قاد إلى انسحاب بعض قيادييه. أما الإستراتيجية مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ فقد تمثلت في الانفراد بالحوار مع فصيل دون آخر مثلما فصلت السياسي عن العسكري، الأمر الذي أفضى إلى الاتفاق مع الجيش الإسلامي للإنقاذ حول تسليم أسلحته والعودة عن العمل المسلح، في الفاتح أكتوبر تشرين الأول العام 1997وكان هذا على حساب القيادة السياسية التاريخية التي وجدت نفسها خارج اللعبة، خاصة عند إقرار مشروع الوئام المدني العام 2000.

هذه هي الإستراتيجية التي مكنت السلطة من تسيير الأزمة، بحيث خلقت معارضة على المقاس لا يمكنها أن تتحرك إلا وفق الأطر المرسومة وضمن ما هو مسموح به من هوامش، وإلا كان المصير ما تعرضت له حركة الإصلاح وزعيمها عبد الله جاب الله الذي تحول هذه الأيام إلى أحد مروجي مشروع الميثاق من أجل السلم والمصالحة وهو المعروف بمعارضته لأغلب ما يصدر عن السلطة من مواقف.

ومع إطلاق السلطة لمشروع ميثاق السلم والمصالحة الوطنية ظلت مواقف ما يعرف بالجبهات الثلاث معارضا له، على خلفية استمرار نفس منطق السلطة الذي لا يرى في الأزمة الجزائرية إلا أزمة أمنية تقتضي حلولا أمنية.