بلال خبيز من بيروت : من يراقب التصريحات والمواقف المتبادلة بين اقطاب السياسة اللبنانية، يراوده شعور ان الأوضاع الداخلية اللبنانية وصلت إلى مرحلة لا صلاح بعدها. وان البلاد دخلت في نفق لا رجعة لها منه. لكن التصريحات والتصريحات المضادة في بلد كلبنان لا يمكن أخذها على حرفيتها كما يجدر بالمواقف السياسية ان تكون. إذ ان طبيعة الانقسامات السياسية في لبنان لا تترك كثيراً من المساحات المشتركة التي يمكن إشغالها من قبل الاطراف كافة. ذلك ان القوى السياسية اللبنانية وبعد حرب اهلية دامية تموضعت في مناطق يغلب عليها الصفاء المذهبي، بعدما دمرت الحرب التي عانى منها لبنان عقوداً كل المساحات المشتركة بين اللبنانيين. والحال لا يشكل حزب الله على المستوى الداخلي اي خطر يتهدد مصالح الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الحيوية، فكل فريق من الفريقين يتحصن في منطقته التي يستحيل اجتياحها من قبل خصمه، وكلاهما يملك من اسباب القوة ما يؤهله للتوتير والمشاغبة الجدية على مشاريع خصومه التي لا تتوافق مع مصالح جمهوره ومنطقته وطائفته. لكن اي فريق من الفريقين لا يستطيع وحده ان يصنع اختلالاً حاسماً في موازين القوة الداخلية. وهذا الحكم لا تقتصر صحته على هذين الطرفين فقط، بل يطاول كافة القوى السياسية اللبنانية الوازنة والمؤثرة.

ان أي قراءة بنيوية في طبيعة الازمة الراهنة التي تعصف بلبنان تكشف عن اختلال في تأسيس النصاب السياسي الاكثري الذي بدا في لبنان كاسحاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري لمصلحة فريق 14 آذار ndash; مارس. فمع انسحاب التيار الوطني الحر الذي يتزعمه الجنرال ميشال عون من صفوف هذه الاكثرية وتحالفه مع حزب الله والقوى المتحالفة معه، اصبح لبنان يملك نصابين سياسيين وازنين ومتعادلين من حيث اسباب القوة والقدرة على الصمود والمواجهة والتعطيل. وبصرف النظر عن المطالعات القانونية وحروب العرائض المتقابلة، وشكوى حزب الله والقوى المتحالفة معه من استئثار الاكثرية النيابية بالسلطة والقرارات، وشكوى الفريق الأكثري من استئثار حزب الله ومن يحالفه بقرارات الحرب والسلم، فضلاً عن اسره موقعي رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي وتنطحه لمحاولة اسر السلطة التنفيذية عبر مطالبته بالثلث المعطل، بصرف النظر عن هذه المطالب والدعاوى، فإن حزب الله استطاع تعطيل الحكومة فعلاً من دون الحصول على ثلث معطل، ذلك ان من ينطق حزب الله باسمهم في معركته الحالية ليسوا فريقاً اقلوياً يمكن للأكثرية ان تتجاوز مطالبهم كما لو ان شيئاً لم يكن. لكنهم من ناحية ثانية لا يملكون وزناً كاسحاً ومرجحاً يمكنهم من السيطرة على البلد بصرف النظر عن مطالب الفريق الذي يخاصمهم.

والحق ان انقسام الموارنة فريقين متخاصمين جعل من الطموح إلى تشكيل نصاب سياسي لبناني غالب ومهيمن مسألة مستحيلة، الامر الذي اوقع البلد في العجز عن المبادرة وجعل التوافق على دور او ادوار يمكن ان يؤديها لبنان في المنطقة او في العالم مستحيلاً لأنه لا يملك نصابه المحلي اولاً.

هكذا لم يعد خافياً ان اللبنانيين باتوا منقسمين على مشروعين كبيرين، الأول يتعلق بالدور الاقتصادي للبنان الذي مثله مشروع الرئيس الراحل رفيق الحريري، والثاني يتعلق بمدى اسهام لبنان في الصراع العربي ndash; الإسرائيلي والقسط الذي يتوجب عليه دفعه في هذا الميدان. حيث اصبح مشروع حزب الله المقاوم محل خلاف لبناني يسقط عنه شرعيته المحلية ويحرج حزب الله في ابرز نقاط قوة مشروعه، كما ان المشروع الاقتصادي المنفتح على العالم العربي والعالم بصورة عامة والذي مثله تيار الرئيس الراحل رفيق الحريري بات اليوم محل اخذ ورد واعتراض يمنع عن هذا المشروع قدرته على تحقيق اهدافه والتحرك بحرية كالتي كان يملكها اثناء عقد التسعينات من القرن الماضي.

ما زال الفريقان المتخاصمان يعترضان مواربة على المشروعين الكبيرين اللذين حكما لبنان ودوره في العقدين الماضيين، لكن هذه المواربة لا تخفي ان هدف كل فريق اسقاط مشروع الفريق الآخر. في الأثناء تبدو المارونية السياسية المنقسمة على نفسها في هذا السياق من دون مشروع من اي نوع. وهي تتنقل تباعاً وتفاضل بين مشروعين لا تملك مفاتيح التقرير في شأنهما. ومن دون ولادة مشروع ماروني مستقل عن كلا المشروعين الكبيرين، وادلاء الموارنة بدلوهم في ما يتعلق بمستقبل لبنان ودوره في المنطقة والعالم فإن هذه الأزمة ستراوح مكانها طويلاً في صيغة اللاغالب واللامغلوب.

في الأثناء تذوي الدولة الجامعة ويتحول الدستور والقوانين مجرد فقرات من الحبر منصوصة على ورق لا يقدم ولا يؤخر، بل الارجح ان فقهاء قانونيين ودستوريين كثرا سيجتهدون كل يوم في ايجاد الحجج الدستورية والقانونية التي تتيح للقوى المتصارعة ان تنتهك الدساتير والقوانين باسم القوانين والدستور والعيش المشترك.