حصاد جلسات الحوار اللبناني - اللبناني
مزارع شبعا الدولية... أو مسمار جحا

بلال خبيز- بيروت: يشبه الحوار الدائر اليوم في بعض وجوهه ما كان يجري في فصول الحرب الأهلية اللبنانية في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي. جولة من الحوار يسبقها اتفاق على وقف النار، لا يتم تنفيذه والالتزام به إلا قبيل انعقاد جلسة الحوار، ثم تعقد الجلسة في ظل هدوء امني قلق. بعد ذلك يعود كل طرف إلى مواقعه ويبدأ إطلاق النار. الفارق بين الحالين ليس بسيطاً في طبيعة الحال، فالتراشق بالمدافع يختلف عن التراشق بالمواقف. لكن النتائج السياسية لهذه الجولات الحربية بدأت تلوح منذ الآن في أفق الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان. ويمكن القول ان مجريات الحوار، على مدى الأسابيع الماضية، اسفرت عن نتائج يمكن تسجيلها في خانة النتائج شبه النهائية او المحسومة والتي لا بد لكل باحث او متطلع إلى افق ما للبلد ان يأخذها في اعتباره.

إقرأ أيضا

بطريركالموارنة:
لحود غير قادر على الحكم

حصاد الحوار اللبناني - اللبناني
الرئيس إميل لحود ما قبل التقاعد

ادخل المتحاورون البلد في نفق انتظار نتائجه منذ الاسبوع الأول. حال الترقب والقلق التي رافقت التحضير للجولة الاولى من الحوار، سرعان ما اسفرت عن وجوه لبنانية باشة. لقد انتج الحوار في جلساته الأولى ما يمكن اعتباره تثبيتاً لأهميته. انشقت الجولة الاولى عن آفاق يمكن ان توصل اللبنانيين إلى نتائج مرضية. إذ اثبتت ان التخوف من الحرب الأهلية يمكن ردعه وضبط الرؤوس الحامية في كافة الضفاف اللبنانية. والنتائج الاولى التي تم التوافق عليها بدت مبشرة ايضاً. فلأول مرة يجمع اللبنانيون جميعأً ولو مبدأياً، على ضرورة ان تقوم بين لبنان وسورية علاقات ندية تقوم على احترام متبادل وتستند إلى تمثيل دبلوماسي، وتحديد للحدود على ما يصر الرئيس نبيه بري. التوافق في هذه النقاط كان بالغ الأهمية. لكن مسألة لبنانية مزارع شبعا لم تكن أقل اهمية وان كانت جاءت مبتورة وناقصة. إذ ان تاريخ المزارع وسيادة الدولة اللبنانية عليها كانت على مر التاريخ اقرب إلى التخلي، لفض الإشكال. فمنذ بدايات تأسيس الكيان اللبناني، والذي تزامن تاريخياً مع نشوء دولة اسرائيل، بدت الدولة اللبنانية عاجزة عن ضبط المزارع وتثبيت سلطانها عليها. والحق ان تلك المنطقة من لبنان بالذات هي التي شكلت على الدوام ما يشبه كعب أخيل السيادة اللبنانية. فهناك قامت فتح لاند، ومن تلك المنطقة بالذات تدخلت سورية في ثورة 1958، وهناك قامت دولة لبنان الحر المدعومة من اسرائيل، بقيادة اللواء المتقاعد في الجيش اللبناني انطوان لحد، بعدما كان الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد قد أسس لبناتها الأولى. فضلاً عن هذا كله، ونظراً لطبيعة المنطقة الوعرة ووقوعها على زاوية دولتين، فإن اهل المنطقة نشطوا منذ القدم وحتى اليوم في التجارة بين لبنان وفلسطين وسورية، وحين لم يكن ثمة مجال للتجارة الشرعية كان ينشط التهريب. والمنطقة التي يصعب ضبطها مدنياً وجغرافياً اسست اقتصادها الكفيف على مثل هذه النشاطات. فلم تكن تلك المنطقة تعرف من سلطات الدول الثلاث التي تقع على حدودها غير بندقية الدركي وجابي الضرائب ومدفع العدو.

كان عجز الدولة اللبنانية عن ضبط هذه المنطقة بادياً للعيان. لكن الأحداث التي تسارعت في المنطقة وعلى الحدود مع الكيان الاسرائيلي سرعان ما جعل جهود الدولة اللبنانية في ضبط المنطقة وضمها إلى سلطانها أقل من ان تذكر.

في السياسة كانت تلك المنطقة بوابة لانشغال لبنان وتحمله تبعات ما بات يعرف بأكلاف الصراع العربي الاسرائيلي. لذا فضلت الدولة اللبنانية في اواخر الستينات ان تقطع هذه الارض بناسها إلى المقاومة الفلسطينية لتمارس حربها غير المتكافئة ضد اسرائيل، وتكون الدولة اللبنانية قد أدّت بذلك قسطها في هذا الصراع، بافتراض ان الحرب على تلك الحدود، لن تصل شرارتها إلى الداخل اللبناني المزدهر والناشط في ذلك الزمن.


كان حزب الله، وهو واقعياً وريث هذه السلطات التي تعاقبت على التحكم بالمنطقة، يصر على لبنانية مزارع شبعا، وعلى اقرار اللبنانيين المجتمعين في مؤتمر الحوار بلبنانيتها. وهذا في حد ذاته امر مرغوب ومطلوب، فالسيادة لا تتجزأ إلى متن واطراف، ومناطق مهمة وأخرى مهملة. السيادة تكون شاملة او لا تكون. ولم يكن مفهوماً هذا النقاش الدائر في البلد، إذا ما حملناه على محمل السيادة وشروط تحققها، الذي يفترض ان رفض سورية الاعتراف بلبنانية المزارع رسمياً يعفي اللبنانيين من مغبة المطالبة بحقهم في السيادة على هذه الأرض. وبصرف النظر عن مناقشات الخرائط والقرارات الدولية. كان واضحاً ان مؤتمر الحوار يتلون عند هذه النقطة بالذات بلونين بالغي الوضوح والتنافر. اللون الاول الذي حمله حزب الله يفترض ان المحسوم في امر مزارع شبعا هو ضرورة تحريرها من الاحتلال الاسرائيلي، بصرف النظر عن هويتها. واللافت في هذا المجال ان التخلي السوري الشفهي عن مزارع شبعا، جعل الإدارة السورية تشعر انها معفية من مهمة تحرير المزارع، والاكتفاء بالمطالبة بتحرير الجولان. واللون الثاني كان يفترض ان مزارع شبعا بحاجة لإثبات لبنانيتها، وعلى قاعدة هذا الإثبات الذي يستلزم اعترافاً رسمياً سورياً موثقاً بلبنانية المزارع، فإن الضغط الدولي كفيل بإخراج اسرائيل من تلك المنطقة، مما ينفي الحاجة إلى المقاومة المسلحة. هكذا علقت مزراع شبعا بين وعدين خارجيين: السوريون يقولون حرروها وبعد ذلك نرسم الحدود، والإسرائيليون يقولون اثبتوا لبنانيتها ونحن مستعدين للانسحاب منها نكاية بسورية.

في كل هذا كان اللبنانيون على الضفتين ناقصي السيادة من دون شك. فليس في التخلي عن مزارع شبعا ما يمكن ربطه بتطلب السيادة والاستقلال، وليس بتحريرها ما يجعل السيادة ناجزة وتامة. والحق ان المعضلة التي وجد اللبنانيون نصف حل لها، هي التالية: مزارع شبعا هي منطقة لبنانية ما دام الاحتلال يقيم فيها. اما فيما لو تحررت فقد تعود سيادتها إلى سورية بحسب منطق ما يجري اليوم. كان في وسع اللبنانيين الذين يستسهلون انسحاباً اسرائيلياً من المنطقة ما ان تقر سورية بلبنانية المزارع رسمياً ان يسألوا حزب الله إذا كان يريد تحريرها من سورية فيما لو اصرت بعد التحرير على عدم الاعتراف بلبنانيتها.

لكن ما جرى ليس أكثر من ربط النزاع بأدوات لبنانية وارض لبنانية بين اسرائيل وسورية بوصف المنطقة حجة لأي سياسة هجومية مقبلة. فبوسع اسرائيل، ما ان تجد مصلحة في ذلك، ان تهاجم بعنف سورية ولبنان بحجة التوتر في المزارع وعلى جبهتها، وفي وسع سورية ان تفتح جيباً من الحروب الصغيرة في المنطقة، ما ان تجد في نفسها ونظامها القوة على تحمل اكلافها. في كل هذا كان اللبنانيون غائبين عن المزارع، وبقيت المنطقة برمتها مسمار جحا السيادة اللبنانية الذي قد يثقب الدف.