الشعبوية الجمهورية تحاول رصّ صفوفها
ماكين يستغل ثغرات الدستور الاميركي
بلال خبيز من لوس انجلس: يحلو للمرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الاميركية ان يتهم منافسه الديمقراطي سناتور ايلينوي بأنه اشتراكي يريد توزيع الثروة بين الأميركيين، بل إن جو السباك الذي جعلته حملة ماكين نجمًا لامعًا، بات يصرح في الاقتصاد والفلسفة، فيقول في احدى مقابلاته الصحافية: اوباما يريد الأخذ من الأغنياء واعطاء الفقراء، وهذا كلام يقوله كارل ماركس فقط. على الرغم من ذلك لا يلحظ المتابعون العاديون في اميركا وخارجها طبيعة الدستور الاميركي المعقدة التي تجعل من الحزب الجمهوري، على مدى عقود إن لم نقل منذ ولادة الدستور الاميركي، اقرب ما يكون إلى الحزب الشعبوي، الذي يقيم للفقراء والبسطاء وزنًا مضاعفًا. فإذا كان باراك اوباما اشتراكيًا، وكون المرء اشتراكيًا ليس نقيصة، لكن الصفة في اميركا لها ما لها من تأثير، فما القول في جو السباك الذي اصبح ناطقاً رسمياً باسم الحملة الجمهورية. هل يعقل ان يكون الحزب الجمهوري مدافعًا عن الاميركيين العاديين والبسطاء والكادحين، ومن هم على شاكلة جو السباك، ثم يتهم خصمه بأنه اشتراكي؟

والحق ان تعقيدات الدستور الاميركي في ما يتعلق بالانتخابات الاميركية تجعل الولايات الصغيرة والفقيرة، خصوصاً ولايات الوسط الاميركي، اكثر ثقلاً في الانتخابات الرئاسية من الولايات الكبيرة مثل نيويورك وبنسلفانيا وايلينوي وكاليفورنيا. ذلك انه بموجب الدستور الأميركي يشترط ان يحوز المرشح الرئاسي على اغلبية اصوات الهيئة الناخبة، والتي تتشكل عملياً من اعضاء المجلسين التشريعيين، وحيث ان الدستور ينص على تمثيل كل ولاية، بصرف النظر عن حجمها، بعضوي مجلس شيوخ، فإن دور الولايات الصغيرة، مثل ديلاوير وماين والاسكا، يصبح حاسماً في عملية اختيار الرئيس. وتتركز معظم الولايات الصغيرة في الوسط الاميركي، فيما الولايات الساحلية الواقعة على شواطئ المحيطين الاطلسي والهادئ والمؤثرة في الاقتصاد والسياسة والثقافة ايما تأثير، تنصاع بحسب نصوص الدستور إلى ما يمكن اعتباره رأي الأقلية ورغبتها في اختيار الرئيس، وطبعاً في التقرير الحاسم في هوية مجلس الشيوخ، اما مجلس النواب فينتخب اعضاؤه من الولايات بحسب كثافتها السكانية.

في انتخابات العام 2000، رجحت اصوات الهيئة الناخبة فوز جورج بوش على آل غور، ذلك انه حصل على 271 صوتاً في الهيئة الناخبة، في حين كان متأخراً عن آل غور في عدد الاصوات الكلي بما يفوق ال500 الف صوت. وفي انتخابات العام 2004 ذهب اكثر من محلل إلى ملاحظة ان الولايات التي رجحت فوز بوش على جون كيري، كانت الولايات الأفقر بين الولايات، حيث خاض جورج بوش حملة شعبوية في تلك الولايات بدا معها كيري الاريستوقراطي المظهر وصاحب اللغة المتثاقفة عاجزاً عن مجاراته على هذا الصعيد. ويومها ايضاً افادت استطلاعات الرأي حول العالم ان جون كيري اكثر شعبية من جورج بوش، ولو تسنى للعالم يومذاك ان ينتخب الرئيس الأميركي لفاز كيري من دون جدال.

غني عن القول ان ما يفصل بين الشعبوية والتوتاليتارية شعرة يمكن ان تنقطع في اي لحظة. لكن الحكم في اميركا معقد إلى درجة كبيرة، بحيث يستحيل على الرئيس ان يتصرف كما لو انه الزعيم الأوحد الذي يملك القرار الأول والأخير. لكن هذا التعقيد النظامي الملزم، لا يمنع المرء من ملاحظة ان الجمهوريين يميلون غالباً إلى الظهور بمظهر شعبوي يمت إلى بعض الافكار الاشتراكية بصلات وثيقة. فيما يظهر الديمقراطيون على العكس من ذلك في غالب الاحيان. والمدقق في التاريخ القريب للانتخابات الرئاسية يستطيع ان يلاحظ بسهولة ان منافسَي جورج بوش في الدورتين الانتخابيتين اللتين فاز بهما، آل غور وجون كيري، كانا إلى حد بعيد يطرحان برامج اكثر تعقيداً من برنامج جورج بوش المبسط والبسيط في الوقت نفسه: سنقاتل الارهاب حتى نهزمه، ونحن امة الخير ومن كان معنا فهو خيّر ومن كان ضدنا فهو شرير. والارجح ان جون ماكين اليوم يستوحي من بساطة بوش خطاباته الاخيرة: انه ببساطة لا يريد ان يفرض ضرائب جديدة، وسيخلق فرص عمل لا تحصى، اما كيف سيتم له ذلك؟ فالعلم عند اصحاب العلم.

قد تكون مشكلة جون ماكين الكبرى انه يواجه هذه المرة زعيماً حقيقياً، ويثبت قدرته على مخاطبة الجماهير واقناعها كل يوم. وفي مثل هذه الحال، لا يعود تعقيد الخطاب عائقاً امام الفوز، مثلما كان حظ الديمقراطيين على الدوام.