كامل الشيرازي من الجزائر: يشعر الزائر لمدينة بوسعادة (422 كلم جنوب الجزائر) بالسكينة والطمأنينة وهو يعانق هذه المنطقة العريقة التي لُقبت قديما بـquot;بوابة السعادةquot;، وكلما يتوغل المرء في جنبات بوسعادة ويغوص في أعماقها يتلمس ينابيع التراث وشموخ الأصالة، ما جعل quot;جوهرة الصحراءquot; كما يحلو للكثيرين تسميتها، تتحول منذ زمن بعيد إلى قبلة للسياح ومحج للفنانين الذين انبهروا لثراء المنطقة وتقاليدها وما تختزنه من تميّز في في المعالم والأزياء من البرنوس والقندورة والحلي الفضية وصولا إلى الأواني النحاسية والفخارية والطوبية أيضا، ويدرك كل من يتشمم عبق جوهرة الصحراء، أنّ الأخيرة جزائرية خالصة، فقد أبت المدينة الانسلاخ وظلت مخلصة لشخصيتها الثقافية ورصيدها الحضاري الكبير، ولعلّ شواهدها الحالية تعكس ماضيها الثري الذي يشرح حاضرها ويضيء مستقبلها.
وأنت تتأهب للدخول إلى مدينة السعادة، تلمح الجبل العتيق (كردادة) وهو يعتلي المدينة حتى يخيل للمرء أنّ هذه القمة الجبلية الشاهقة تسهر على حماية هذه الجوهرة من هول الزمن، وما يلبث الداخل إلى بوسعادة أن يشعر بهدوء الصحراء في هذا المكان، فأحياء ومسالك بوسعادة مكللة بالربوات والتلال والكثبان الرملية تزينها أشجار الصفصاف من جانب وتعطرها رائحة النباتات الطبيعية كالديس والشيح والعرعار من الضفة الأخرى، وتبرز هذه المدينة العتيقة لأول وهلة بخصوصية طابعها المعماري الأصيل والمميز، فحاراتها ذات اللون البني والأصفر لم تشيد سوى بالطوب والعرعار والخشب منذ قرون ومازالت تكافح الزمن لحد الساعة.
وبحسب معلومات توافرت لـquot;إيلافquot;، فإنّ العلامة quot;سيدي تامر بن أحمدquot; هو من أسس مدينة بوسعادة عام 1120 ميلادي، ووصفها بالسعادة نظرا لغبطته بجمال الطبيعة قبل أن يتحول الاسم إلى quot;أبي السعادةquot; ثم إلى quot;بوسعادةquot;، وقد شيد سيدي تامر في البداية مسجدا حمل اسمه وما يزال موجودا إلى حد الساعة رغم أنه بُني بالطوب والحطب، دون أي مواد بناء فعالة.
ويروي أبناء المدينة، أنّ المسجد المذكور بمجرد تشييده حتى انفجر بمحاذاته بئر مياهه دافئة شتاء وباردة صيفا، وشكّل مع مرور القرون حوضا مائيا تعيش فيه أسماك تسمى quot;النونquot; تقوم بتنظيف حوض المسجد من كل القاذورات والأوساخ ليل نهار وصباح مساء بفعالية كبيرة وكد غريب، ليكتسب مسجد سيدي تامر خواص المعلم الديني والحضاري والتاريخي الهام، وتخرجت منه قوافل من العلماء والأساتذة ورجال الفقه، كما شكّل مزارا دائما للسواح والكتاب والفنانين، ولا أدل على ذلك من تعلق الفنان التشكيلي الفرنسي الشهير quot;اتيان دينيهquot; (1861 ـ 1929م) الذي دخل الإسلام وغيّر اسمه إلى quot;نصر الدين دينيهquot; قبل أن يكرس حياته في خدمة بوسعادة، تلك الواحة التي تفيأ بظلال عشقها، وخصَّها بفنه الكبير وروائعه الخالدة، فصورها ورسمها تاريخيا واقتصاديا واجتماعيا في لوحات زيتية أخذت شهرة دولية ودخلت كبريات المتاحف في العالم بينما تحول متحفه الكائن ببوسعادة إلى معلم ثقافي شهير يزوره الصغير والكبير وهو أصلا المنزل الذي كان يقطنه قبل وفاته ببوسعادة.
وحرص السكان المحليون عبر قرون على بناء أحياء وحارات بشكل متساوق مع مسجد سيدي تامر، وهو ما أنتج حي العرقوب وحارة الشرفاء والزقم وباب البويب والموامين والعرابة وكلها مجتمعة تشكل مدينة بوسعادة الأصيلة والأصلية .
ويقول أعيان بوسعادة أنّ زاوية الهامل التي لا تبعد سوى بحوالي 14 كيلومتر عن وسط المدينة، زادت المنطقة شهرة كونها منارة للعلم والدين والفقه، فقد شيدت سنة 1845 على يد العلامة الراحل quot;سيدي محمد بن بلقاسم القاسميquot;، وعُرفت هذه الزاوية بالدعوة الدائمة إلى تحصيل العلوم والدين والفقه، فتخرجت منها أجيال من المثقفين وعلماء الدين والإطارات والأئمة ورجال الفقه، وعملت هذه الزاوية التي تتبع الطريقة الرحمانية على نصرة مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة quot;الأمير عبد القادرquot; ودعمته في الحرب على المحتل الفرنسي، مثلما أيدت وساندت فرسان المقاومة على غرار الشيخ المقراني والشيخ الحداد وغيرهما.
وما زاد زاوية الهامل أبهة وهيبة، عمل القائمين عليها منذ سنوات طويلة على إصلاح ذات البين بين مختلف القبائل المتناحرة وتسوية الخلافات بين العشائر إبان الحقبة الاستعمارية بالطرق السلمية، وقد توسعت أنشطة الزاوية وباتت تحتضن آلاف الكتب والمخطوطات التاريخية يعود بعضها إلى 740 سنة خلت-، وتشمل مختلف ضروب العلم والمعرفة من العلوم الطبيعية والعلوم الدقيقة كالفيزياء والكيمياء والرياضيات، وصولا إلى علوم الدين والشريعة الإسلامية وحفظ القران الكريم وتفسيره ما زاد في إقبال طلبة العلم عليها من شتى أرجاء البلاد.
ولا يمكن لزائر مدينة بوسعادة أن يتعامى عن سوقها الحرفي الشهير، فهنا تصادفك محلات بيع الزرابي بمختلف الأشكال والأحجام والمزركشة بشتى الألوان والرسومات والتي تباع بأثمان معقولة، وهي زرابي تنسج في البيوت بالطرق التقليدية العتيقة، كما تؤكده الحاجة فاطمة (72 عاما) التي تمارس هذه الحرفة في منزلها منذ ستين سنة كاملة، حيث بدأت تكوينها وهي طفلة لم تكد تتجاوز 12 سنة، ومازالت لحد الآن تمارس الحرفة بشغف وعشق كبيرين على غرار معظم نساء بوسعادة .
وفي هذه السوق أيضا تبرز محلات بيع البرانيس التي تنسج معظمها من طرف عائلات متخصصة منذ عشرات السنين، ما جعل الحرفة متوارثة أبا عن جد حسب أقوال الحاج معمر (80 عاما) المختص في نسج وبيع البرنوس البوسعادي القح، وهو لباس تقليدي ذائع الصيت في الجزائر، ويشدّد الحاج معمر على أنّ صناعة البرنوس رصيد يعبر عن أصالة وخصوصية وهوية المنطقة، لذا يجب صيانته والمحافظة عليه ونقله بكل أمانة للأجيال الصاعدة، لذا فان مدينة السعادة تحتفل كل عام بـquot;عيد البرنوسquot; الذي يستقطب الزوار من كل صوب وحدب.
وما يزيد في إبهار السياح وجعلهم يتشبثون ببوسعادة، تلك المناظر الفاتنة والأخاذة كبساتين النخيل الممتدة على ضفتي الوادي الرقراق التي تتعانق فيها أشجار البلوط بأشجار الرمان وأشجار المشمش بالخروب واللوز، وهو سحر جعل كبار الكتاب والفنانين يزورون بوسعادة باستمرار، وشجّع تنوعها كبار المخرجين العالميين على القدوم إلى المدينة الهادئة لتصوير أعمال اشتهرت دوليا، على غرار فيلم quot;دليلة وسمسونquot; الذي مثل فيه quot;هيدي لامارquot; وquot;أنجيلا لانسبوريquot; وأخرجه quot;سيسيل بلونت دو ميلquot; (1948)، وكذا فيلم quot;بائع العبيد quot; للمخرج الايطالي الشهير quot;أنطوني داوسونquot;، علاوة على أفلام جزائرية كان لها صداها كـquot;عطلة المفتش الطاهرquot; للمخرج موسى حداد، وquot;وقائع سنوات الجمرquot; للمخرج محمد الأخضر حمينة (1975) الذي افتك السعفة الذهبية لمهرجان كان، إضافة إلى الفيلم الهزليquot; الطاكسي المخفيquot; للمخرج بن عمر بختي (1989).
ولا يمكن أن تكتمل جولتك عبر جوهرة الصحراء دون زيارة طاحونةquot; فيريروquot; التي لا تبعد عن بوسعادة سوى بثلاثة كيلومترات، وأصبحت بمثابة معلم تاريخي يلجا إليه كل الزوار، تبعا لمجاورتها شلالات رائعة كانت في الماضي تشكل الطاقة المحركة للطاحونة، فيما تحول منزل quot; فيريروquot; اليوم إلى أطلال بديعة خلابة تسبح وسط مياه الوادي المحاط بحدائق عائمة وبساتين خصبة خضراء
التعليقات