جولة في مثلث الموت الجزائري quot;المتلاشيquot;
عندما يختنق وهج الأمل بألم الماضي

كامل الشيرازي من الجزائر: لعلّ من بين أهم الشواهد في جزائر تسعينيات القرن الماضي، هو من دون شك ما ظلّ يٌسمى هناك بـquot;مثلث الموتquot; الشهير الذي كان ممتدا من ضاحية quot;بن طلحةquot; إلى منطقة سيدي موسى، مرورا ببلدة الأربعاء (40 كلم شرق العاصمة)، وشهد هذا المثلث بين تعاريجه أشدّ مآسي سنوات الفوضى والجنون خلال ما عٌرف محليا بـquot;العشرية الحمراءquot; وما تلا الذي حدث في شتاء 1992، وبالتزامن مع انقضاء 16 سنة على ما عرفته تلك المناطق من سيناريوهات هي أقرب إلى الهيتشكوكية، كانت لـquot;إيلافquot; جولة ميدانية في هذه المناطق الموسومة بـquot;المنكوبة أمنيا واجتماعياquot;، أين كانت لنا جملة من المشاهدات والانطباعات الحية، نسردها فيما يأتي:


كانت وجهتنا الأولى صوب ضاحية quot;بن طلحةquot; (30 كلم شرق)، دلفنا إلى إحدى جنبات الحي الكبير quot;الجيلاليquot; الذي عرف مجزرة نحر فيها 500 شخص كالنعاج في تلك الليلة الرهيبة (22 إلى 23 سبتمبر/أيلول 1997)، قصدنا أحد المقاهي الشعبية الضيقة، والتقينا بمجموعة من الشباب الذي قابلونا بسحنات متعبة وبشيء من التحفظ حاولوا أن يواروه ببسمات شاحبة، قال رشيد، كمال، لطفي وكريم، وغيرهم من الشباب العشريني ممن كانوا أطفالا زمن اشتداد الأزمة الأمنية، أنّ نفسياتهم محطّمة بفعل ما نعتوها (نوائب الدهر ونكبات الزمن)، عندما ساءلناهم، عما إذا حاولوا الاندراج في خطط الحكومة، نظروا إليّ باستغراب مشوب بالأسى، بادرنا أحدهم:quot; كيف يراد لنا أن نفعل ذلك، ونحن محطمون ومحرمون من أدنى معاني الحياة؟quot;، وأعقب آخر:quot; هل ترى الطرقات غير المعبّدة والإنارة العمومية غير الموجودة مطلقا، ولعلمكم أنا لا أشتغل وأبي أيضا وهذا حال معظم شباب الحي، ونحن نقتات بقدرة ورحمة من الله !quot;.


جاءنا شاب وقور في الثالثة والثلاثين من العمر، وبادرنا بأنه لم يستوعب مخطط المصالحة الذي أقرته السلطات قبل سنتين، وتضيف خديجة (24 سنة) يتيمة الأبوين :quot;لا أريد أن أدرك أي شيئquot;، وقالت أنّها لا يمكن أن تقبل بعفو السلطات عن قتلة والديها الذين ذبحا أمام عينيها قبل أحد عشر سنة، و لا تزال آثار دمائهما إلى حد الساعة على أحد جدران البيت.


وفي سكون رتيب، رمى الشباب البطال بالمسؤولية على السلطات، فالبلدية غائبة حسبهم مثلها في ذلك الولاية، وحتى المساعدات التي كانت تتكرم بها مؤسسات سعودية إماراتية خيرية حوّلت على نحو غامض مثلما قالوا، وأوضح رشيد بهذا الصدد:quot; أردنا النسيان، لكن الدولة لم تساعدنا على ذلك، تصوروا أنّ الأهالي يدورون خارج الزمن الجزائري، فلا مكتبة ولا نادي أنترنيت ولا قاعة رياضية ولا نشاط صناعي أو تجاري.
غادرنا quot; بن طلحة quot; شاردين، لننزل ضيوفا على حي quot; الرايس quot; المجاور الذي اقترن هو الآخر بصفحة مؤلمة في صورة تلك الليلة الأيلولية المفجعة من عام 1997، التي جرى فيها الفتك بخيرة أبناء الضاحية، كانت الحركة داخل المكان جدّ محدودة، وبدا الجرح الغائر باديا على الوجوه، اقتربنا من الشابة (يمينة / ط ) التي فقدت عائلتها بالكامل، حادثتنا مرتبكة:quot;لست قادرة على النسيانquot;، فيما استطرد صوت شيخ محطّم: لا زلنا محرومين، ومتروكين لمصيرناquot;، بينما أوعزت أم ثكلى:quot;الألم ينهشنا، لكن الأمل بيد ربي يا وليدي، وإنشاء الله تهبّ على الجزائر رياح الخير والبركةquot;.


غادرنا quot; الرايس quot; على وقع ابتهالات العجوز، وقصدنا منطقة quot;سيدي موسىquot; (35 كلم شرق العاصمة)، هذه المنطقة كانت هي الأخرى فيما مضى عنوانا للتردي واللا استقرار، لكنها اليوم مسحت كثيرا من الدموع وأمارات البؤس والعدم، كان الوضع حيويا إلى حد ما بالناحية، أين اكتسبت المدينة حلة خاصة، ومعها بدا كما لو أنّ أعراسا ستقام هناك، في وقت ارتضت فيه طائفة ليست بالقليلة، البقاء خارجا.
وكانت خاتمة جولتنا ضاحية الأربعاء، التي يعيش بها كثير من التائبين، الجو كان حارا بعض الشيء، التقينا بكوكبة من الشباب والكهول، وبادرنا العم أحمد بالقول:quot; نتمنى زوال الشوك، وتألق الورودquot;، في درب مجاور دعبنا نسوة كنّ ذاهبات للتسوّق:quot;مستقبل البلد سيبقى ملبّدا؟quot;، نظرنّ إليّ شزرا، وقالت لي إحداهنّ:quot;من يؤمن بذلك، لا يحبّ الجزائرquot;.