ركان الفقيه من بيروت: يصيب الشلل شبه المطلق، حركة المعلمين في لبنان، التي يكاد ينعدم فعلها بسبب الانقسام والتشرذم الذي تشهده، ويطاول الجسم التعليمي بما يجعل هيئاته النقابية صورة معبرة عن الموزاييك الطائفي والمذهبي المطبق على البيئة الاجتماعية اللبنانية، بعد أن تحول إلى قانون يحكم مجمل الحراك الاجتماعي والسياسي، ودون أن تشذ عن قاعدته الحركة النقابية العامة في البلاد، التي أصبح فيها لكل طائفة ومذهب اتحاداتها العمالية والتعليمية والمهن الحرة، وإذا ما وجد الإطار الوطني العام الذي يضم مجموعة من النقابات، فإنها تبقى كتلاً مغلقة، يحكم علاقتها التنافر الدائم، وفي أحسن الأحوال التجاور والتنسيق المحدود، الذي سرعان ما يتحول الى تنابذ و مواجهة بين القوى النقابية نفسها مع بدء أي تحرك نقابي، بعد محاصرته تحت عناوين متعددة وعلى رأسها الادعاء بأنه يأتي في سياق الضغط السياسي من أجل تعزيز موقع طائفة على أخرى داخل هيكلية السلطة، إنه السلاح الذي ما برحت الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان تستخدمه منذ نشوء وانطلاقة الحركة النقابية للقطاعات العمالية والتعليمية والطلاب وغيرهم من الفئات الاجتماعية والحؤول دون قدرتها على تحقيق الحد الأدنى من مطالبها الحيوية والضرورية.


شهدت حركة المعلمين في بعض المراحل نهوضاً ووحدة تجاوزتا أحكام الانقسامات الطائفية في سبيل تحقيق مصلحتها النقابية المباشرة وبالتالي الوطنية العامة لكن انفلات الغرائز الطائفية من عقالها، على مدى الأعوام الماضية، بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وحرب تموز 2006 الإسرائيلية على لبنان، ومفاعيل الصراع من أجل التحكم بمقاليد السلطة السياسية وتقاسم الحصص داخلها، قد ضرب القاعدة النقابية للمعلمين، وهيئاتها القيادية وباتت quot;تضجquot; داخلها كل عناصر الشحن الطائفي والمذهبي بكل quot;عدتهquot; المستخدمة من أجل استنفار هذا الجمهور الطائفي أو ذاك، المتحلق حول زعيمه quot;الملهمquot; واستحضار كل موروث الذاكرة الخاصة بكل طائفة ومذهب، بما يعلي من شأن الذات الطائفية الخاصة ويحقر مجمل الذوات الأخرى، خصوصاً وأن كل طائفة تعتقد بأنها الفئة quot;المختارةquot; من الله للحفاظ على أصول الدين ونقائه الأمر الذي يترجم أوصافاً ونعوتاً للآخر بما يحط من شأنه، وينتهي بالنتيجة إلى امتناع أجزاء أساسية من الجسم التعليمي عن الالتزام بدعوة مسؤولها النقابي للإضراب والاعتصام، من أجل المطالبة بالضمان الاجتماعي أو زيادة في الراتب، بل وتساق كل النعوت المسيئة من قبل أبناء الطائفة الذين ينتمون إلى القطاع التعليمي نفسه بحق المسؤول النقابي خصوصاً إذا ما كان ينتمي للطائفة النقيضة الأخرى، حيث بات أمراً طبيعياً أن تسمع وصفاً مثال quot;إنه رافضي ومن أهل البدعquot; إذا كان شيعياً أو أنه quot;نصراني وصليبيquot; لا يجوز الجلوس معه وحتى عدم التحدث إليه إذا كان مسيحياً إلى آخره من الأوصاف والنعوت التي تصل إلى حد تشبيهه أبناء الطوائف الأخرى بالزواحف والحشرات.


يؤكد المدرس في التعليم الأساسي مرتضى مكي، سيادة حال الانقسام والشرذمة في أوساط الجسم التعليمي، مما بات يشله عن القيام بأي تحرك من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية والحياتية لأعضائه، ويتابع مكي قائلاً: quot;لقد وصلت هذه الأوضاع إلى أسوأ مستوياتها خصوصاً في التعليم الأساسي، الذي يشكل الكتلة الأكبر من جسم المعلمين، مقارنة بإجمالي الجسم التعليمي في لبنان، إذ وبالرغم من الهوة الكبيرة التي باتت تفصل بين نسبة راتب المدرس في التعليم الأساسي الرسمي مقارنة براتب أستاذ التعليم الثانوي والأوضاع الحياتية القاسية التي يعانيها المدرسون المتعاقدون في التعليم العام، ووصول متوسط الدخل الشهري للمدرس المتعاقد إلى ما يقارب المئة وخمسين دولاراً فقط. لم تتمكن رابطة التعليم الأساسي والروابط النقابية الأخرى للمعلمين من إطلاق أي تحرك مؤثر، خلال ما يقارب العقد من الزمنquot;.


يتم تجاهل قضية المدرسين المتعاقدين على سبيل المثال من قبل الهيئات النقابية المختلفة للمعلمين بالرغم من أن المدرسين المتعاقدين أصبحوا يشكلون الجسم الرئيسي العامل في التعليم العام الأساسي، يقول عضو اللجنة العليا للمدرسين حنا حنا الذي ييشير إلى أن عددهم يفوق الإثنا عشر ألف(12000) مدرس، ويتراوح بدل ساعة تعاقدهم بين الستة آلاف (6000) والثمانية آلاف (8000) ليرة لبنانية دون تقاضيهم أي بدل للنقل أو الضمان الاجتماعي، بما في ذلك الضمان الصحي وتعويض نهاية الخدمة ويدفع بإنتاجيتهم إلى الحدود الدنيا، في الوقت الذي بات التعليم العام ملاذاً أخيراً لأبناء الطبقات الفقيرةquot;، ويشير حنا إلى أن الهرم الاجتماعي أصبح قائماً على أغلبية ساحقة من الفقراء وأقلية فاحشة الغنى، حيث يبقى الأخطر في هذه القضية، خلق جيل كامل من الأميين وبالتالي العاطلين عن العمل، الأمر الذي سيؤدي إلى خلل كبير في الاستقرار الاجتماعي لسنوات طويلة، ناهيك عن تبديد الثروة الأهم لدى لبنان وهي موارده البشرية التي أثبتت كفاءة وتميزاً في جميع مجالات العمل والإبداع الإنساني.


ويقارن الاختصاصي في التاريخ د. وسام شرف الدين بين مرحلة السبعينات التي شهدت نهضة غير مسبوقة للتعليم العام بكل مراحله في لبنان والتي كانت قد شكلت رأس حربته رابطة الأساتذة الجامعيين وروابط المعلمين الآخرين والاتحادات الطالبية عندما كانت تسير مظاهرات تقدر بالآلاف من أجل الحصول على المطالب الاجتماعية المتقدمة وأدت على سبيل المثال إلى تحقيق شبه مجانية التعليم في لبنان، بمراحله المختلفة بدءاً بالأساسي وحتى ما بعد الجامعي وقد باتت الآن عاجزة عن تنظيم تحرك ضاغط لتثبيت مجموعة من الأساتذة في ملاك الجامعة، التي تفرغ تدريجياً من الكوادر المطلوبة وتتعرض للتقليص المتواصل لميزانياتها ، وتتحول الى فروع تابعة لهذه الطائفة أو تلك وفقاً للبيئة الاجتماعية المحيطة بها وهو ما يعبر بشكل فاقع جداً عن مدى الانهيار الاجتماعي والثقافي الذي ضرب بنية الدولة ومؤسسات المجتمع المدني اللبناني.

تلحظ رئيسة رابطة التعليم الرسمي الأساسي في لبنان عايدة الخطيب ومن موقعها النقابي انقساماً طائفياً ومذهبياً حاداً في الأوساط المختلفة لقطاعات المعلمين وقد وصل إلى مستويات عالية جداً، بحيث أصبح الحوار بين الكتل المختلفة للجسم النقابي، غائباً بالمطلق وتم إخلاء الساحة للهجوم المتبادل بين قواه، وسوق النعوت المسيئة من قبل كل طرف بحق الطرف الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى قمع أي رأي يحاول أن يكون في الوسط، سعياً للحفاظ على وحدة وتماسك العمل النقابي، بل أن شراسة الهجمات المتبادلة، تأخذ في طريقها أصحاب الرأي الرافض للمنطق الطائفي، من خلال عدم الاعتراف بهم وتصنيفهم ضمن طوائفهم رغماً عنهم، وتذكر الخطيب قائلة: quot;إن الالتباس شديد بين العمل النقابي، المطلبي والبعد السياسي، الطائفي للصراع الذي يشهده لبنان في اللحظة الراهنة يجعل الفصل بينهما أمراً بالغ الصعوبة، حيث سرعان ما تتم محاصرة أي تحرك من خلال إطلاق التهم السياسية ضد القيادة النقابية الداعية لهquot;.

وتعتبر الخطيب أن الأكثر خطورة في الأمر، هو انعكاس الاستقطاب الطائفي على الالتحاق بالمدارس الحكومية التي بدأت تشهد في الآونة الأخيرة quot;هجرةquot; لتلامذتها باتجاه المدارس الطائفية الخاصة، وخضوعهم للتربية الموجهة وفقاً لإيديولوجية وسياسة الطائفة التي ينتمون إليها، خصوصاً وأنه أصبح لكل طائفة مؤسساتها التربوية بدءاً بدور الحضانة وانتهاءً بالتعليم الجامعي وتختم الخطيب مؤكدة تشاؤمها الكبير بشأن تقدم التعليم العام في لبنان، الذي يشهد تراجعاً وانهياراً دراماتيكياً لصالح التعليم الطائفي الخاص والمزدهر جداً.