مونتي فيردي المكان الوحيد الذي سيبقى بعد زوال كل شيء
صلاح حسن من سان خوسيه: بين المحيط الهادئ وحوض الكاريبي تمتد سلسلتان جبليتان طويلتان داكنتا الخضرة بسبب الغابات الكثيفة وتشكلان الطبيعة الغناء لكوستاريكا التي تتمتع بطبيعة نادرة الجمال توصف بأنها الجنة التي ستبقى بعد فناء كل شيء. ويروج الأهالي في مدينة مونتي فيردي أو الجبل الأخضر بالاسبانية لإشاعة تقول إن الحياة ستنتهي على الأرض ولكن هذا المكان سيكون الأخير من اجل جلب السياح الذين لا يحتاجون إلى هذه الإشاعة نظرا لتزايد أعدادهم في السنوات الأخيرة. وإذا كانت مدينة الجبل الأخضر الشمالية تتمتع بخصوصية التنوع في طبيعة النبات والحيوان فأن مدينة تورتوكير الجنوبية لا تقل عنها جمالا لأنها عبارة عن غابات بكر يشكل النهر الذي يخترق هذه الغابات مصدرا دائما لأنواع عديدة من الحيوانات التي لم يعرف بها احد منذ فترة طويلة.
يوجد في مدينة الجبل الأخضر مساحات خضراء لم تطأها قدم الإنسان وهي مازالت طبيعة عذراء يحاول الأهالي برغم نهمهم للسياحة والازدهار الاقتصادي إن يحافظوا على هذه البيئة الثرية في كل شيء. اذ يوجد في هذه الغابة ndash; المدينة ثلاثة ألاف نوع من النباتات وثمانمائة نوع من الأشجار وكذلك خمسمائة نوع من الطيور النادرة، فيها من الطيور الصغيرة التي تعد من العصافير ما هو صغير بحجم إصبع اليد. هذه العصافير تستطيع إن تقف في الهواء حين تمتص غذاءها من رحيق الأزهار وتكون أعشاشها شديدة الصغر بحيث لا يمكن إن ينتبه إليها احد. إما الطيور الأخرى الكبيرة وهي من نوع الببغاوات فتتمتع بألوان فاقعة جذابة وأصوات اقرب إلى الموسيقى. غير إن هناك نوعا من هذه الطيور يمكن إن يقلق الغابة بصوته الذي يشبه الصراخ إذا تعرض عشه إلى الخطر.
تستغرق الرحلة إلى مدينة الجبل الأخضر من العاصمة سان خوسيه أربع ساعات في الباص هي رحلة في طبيعة مدهشة ويكاد الناظر إليها يمل المشهد الأخضر السادر في هارمونيته الندية. غير إن الوديان التي بين الجبال بألوانها البديعة تضفي على المشهد نوعا من السحر لتنوع ألوانها وبعدها السحيق بحيث تبدو قيعانا غير مرئية. حين كنا في العاصمة سان خوسيه لفتت أنظارنا تماثيل كثيرة للغاية لأبقار بالحجم الطبيعي، لكن هذه الأحجية بطلت حين توغلنا في الطبيعة، إذ شاهدنا الكثير من الأبقار هناك وهي مصدر للكثير من صناعات الألبان فلا عجب إن توضع لها الكثير من التماثيل في كل مكان من كوستاريكا.
وإذا كانت الرحلة في مدينة الجبل الأخضر جبلية فهي في مدينة تورتوكير نهرية. يمضي الباص من العاصمة أكثر من ساعة ونصف وبعدها يدخل في غابات الموز المنتشرة هناك بشكل غير معقول. أينما توجه نظرك تجد أشجار الموز التي تشكل غذاء يوميا للسكان ومصدرا تجاريا مهما للاقتصاد في كوستاريكا. العذوق مدلاة وهي مغلفة بأكياس من النايلون من اجل إن تنضج سريعا والمعامل التي تعالج هذه الفاكهة اللذيذة قريبة من الغابات. ما إن تنتهي الغابات حتى تكون في مواجهة النهر المجنون الذي يخترق الغابة من كل مكان. لا احد يعرف من يحتضن من ؟ الأشجار تحتضن الماء أم الماء يحتضن الشجر ؟
يستخدم الناس هناك مراكب متنوعة الحجوم والأشكال منها ما هو سياحي ومنها ما هو للاستخدام الشخصي، وهناك بالطبع مراكب لصيد السمك. ساعة أو اقل يتوقف المركب قرب المنتجع الذي يقع بين حوض الكاريبي والمحيط الهادئ، أينما يولي المرء وجهه يجد نفسه بين الماء والخضراء وأما الوجه الحسن فله حكاية تطول اذ إن كل الصبايا هناك وبسبب طبيعة المناخ الحار والرطب لا يرتدين سوى السوتيان والتنورات القصيرة. كل الصبايا يذكرن برواية نوباكوف quot; لوليتا quot; وهن جنيات صغيرات وهبتهن الطبيعة كل شيء جميل وعزيز مثل الأنوثة الطاغية المفتقدة في كل مكان في هذه الأيام.
أتيح لنا إن ننزل في منتجع يملكه شاعر كوستريكي من أصل فلسطيني يستضيف ضيوف مهرجان كوستاريكا العالمي للشعر في كل سنة. وقد وفر لنا هذا الرجل ذو الدماء العربية كل ما نحتاجه وفوق ذلك أتاح لنا إن نقوم برحلة بحرية في المحيط الهادئ لصيد السمك بمركب خاص يدفع لتأجيره السياح مبلغ خمسة وسبعين دولارا في الساعة الواحدة. لكنه بكرمه العربي اصطحبنا في الصباح الباكر مع احد أهم كابتن في المدينة واستمتعنا برحلة بحرية اصطدنا فيها سمكا كثيرا اعد على عجل كفطور للكثير من الموجودين.
الرحلة إلى داخل الجنكل ذات طبيعة فريدة لان المرء سيشاهد فيها كل شيء على طبيعته الخالدة بما فيها حياة النبات والحيوان الذي لم يعهد رؤية الإنسان. لقد كان بإمكاننا إن نصور التماسيح والطيور والقرود وهي تعيش حياتها الخاصة وكانت فرصة نادرة للتفكير بحياة الإنسان الأول الذي كان يعيش في مثل هذه الأماكن العذراء التي بدأت تتهاوى تحت معول التجارة والاقتصاد الحر الذي دمر جزءا كبيرا من الحياة الطبيعية بسبب النهم غير المحدود.
في الليلتين الأخيرتين اللتين عشناهما في هذا المنتجع يستيقظ المرء على صوت سيمفونية الطيور الباذخة، فللصباح هناك طعم أخر لا يشبه أي شيء من صباحاتنا.. صباح بلا كومبيوتر ولا هواتف نقالة ولا متطلبات. صباح نقي وهادئ وسط طبيعة تذكر بالجنة.
التعليقات