عبد الجبار العتابي من بغداد:انه اصغر دكان في العالم، واقول.. دكان لأنه يحمل مواصفات الدكاكين المعروفة، واقول.. اصغر لانني لا اعتقد ان دكانا في العالم بقاراته الخمس يقوم على مساحة اصغر من التي يقوم عليها، لاسيما انه يقع في شارع تجاري مهم ورئيس مثل شارع الرشيد الذي يعد من ابرز الشوارع في مدينة بغداد، لكنه دكان لا يختلف عن أي دكان الا بمساحته التي اعطته صفة التميز والغرابة، والغريب ايضا انه على الاغلب من الناس لم يلفت الانتباه اليه لانه يقع ضمن صف طويل من الدكاكين المتشابهة تقريبا في تصميمها وواجهاتها، ولان الرصيف صغير فقد يكون الانتباه اليه نادرا الا في حالة التوقف ازاءه وتأمله، وقد سألت الكثيرين فيما بعد عنه ولم اجد احدا قد انتبه اليه على الرغم من مرورهم الدائم بالشارع او سمع عنه.

الدكان طوله متر ونصف المتر وعرضه ثلاثون سنتمترا، يقع في شارع الرشيد في بغداد، في الجزء ما بين منطقة (حافظ القاضي) والسوق العربية، لكنه في المكان الاقرب الى حافظ القاضي، وبالتحديد قبالة تمثال الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء العراقي الاسبق، وهذه المنطقة معروفة باكتظاظها على الدوام لان فيها اسواقا مختلفة ومنها سوق الشورجة الشهير، ومعرفتي به كانت محض مصادفة، وقد اثارني اولا جلوس صاحبه خارجه على عكس الدكاكين الاخرى، ومنه حانت مني التفاتة الى عمق الدكان فصدمني، حيث لم يكن هنالك عمق!!، بل مجرد عدد من الرفوف البارزة، تكاد تخرج الى فضاء الشارع، اربعة رفوف عتيقة تمتد على ارتفاعه، تقف عليها بضاعة من الملابس الداخلية الرجالية والجواريب والسكائر، وبعد ان تمعنت فيه ادهشني حقا ورجعت بذاكرتي الى تأسيس الشارع وقلت انه من المؤكد عمر الدكان من عمر الشارع، واردت ان اعرف ما الذي وراء الحائط الذي تقف عليه هذه الرفوف وكيف شيد الدكان على هذا الشكل على غير الدكاكين التي على جانبيه، لاسيما انه يشكل خطا واحد مع البناء في الشارع، وبصراحة الناظر اليه يشعر بالحيرة، خاصة ان هنالك غرفة في اعلاه وشرفة، مثل كل المباني في شارع الرشيد، ولا يمكن للرائي ان يتوقع ان هذه هي حدود الدكان.

إيلاف التقت صاحبه (مزعل عذاب / ابو جمعة) من مواليد عام (1925) وتحدثت معه عن دكانه، ضحك من انتباهي كون دكانه هو الاصغر في العالم وقال بلهجة عامية ساخرة : (انه رف ومدكوك على الحايط)، ثم اضاف بعد ان وجدني جادا في ما اتحدث عنه : ان احدا لم ينتبه الى هذا او يسمع هذا بل ان لم يستوقفه شكل الدكان، نظر الى دكانه وقال : ربما هو الاصغر صحيح، ولكن ما الفائدة؟، او ماذا يعني؟!!، أسقط في يدي ولكنني استدركت ان هذا الشكل للدكان من الغرائب ولا بد ان يكون مثيرا للدهشة، ومن ثم رحت اسأله عنه، فقال : استأجرت الدكان عام 1977، ويعود الى بيت العسافي اصحاب الملك الذي فيه الدكان، وكنت ابيع فيه الملابس الداخلية الرجالية وما زلت على البضاعة نفسها، لم اغيرها طوال هذه السنين، كان ايجاره بخمسة دنانير فقط ثم صار عشرة دنانير والان (35) الف دينار منذ سنتين، والحمد لله ان ما احصل عليه من ربح يعينني على الحياة، وقد تعرض الدكان الى السرقة مرتين عامي 1977 و1978، ولم يبق السارق أي شيء فيه !!، هذا المكان عشت فيه اكثر ايام حياتي وتعودت ان اجيء اليه كل صباح ولا يمكن ان اجيء اليه، حياتي كلها فيه، وسيكون هو (مقبرتي وحل موتي هنا )، انا لا يعجبني شارع مثل شارع الرشيد.

وسألته عما خلف الدكان فقال انه محل لبيع الاجهزة الكهربائية، لكنه لاعلاقة له بالدكان، واوضح لي حول مساحة الدكان الغريبة قائلا : ان مساحة الارض المملوكة لصاحب الملك هكذا من هنا ضيقة ثم تتسع، ولا اعرف كيف ذلك، والظاهر هي منذ ان بني شارع الرشيد وهي هكذا.

ابو جمعة مازال يتحدث بالدينار والدرهم والفلس، فهو لا يقول ان سعر القطعة من الملابس بألف دينار (الحالية) بل يقول ان سعرها دينار فقط، وحين يطلب منه المشتري ان يقلل من السعر قليلا يقول انه لن يربح الا درهما او درهمين، او يشير الى الخمسين فلسا او المئة فلس، ويعلق ان الالف دينار حاليا يساوي الدينار الواحد سابقا.

ابو جمعة تحدث لي عن نفسه وقال انه خريج فقه عام 1948 وعمل في تدريس القرآن في الكتاتيب قبل ان يتحول الى بائع متجول في الخمسينات بعد ان غابت الكتاتيب ولم يسمح له بالتعيين في اي دائرة حكومية بسبب انتمائه السياسي كونه شيوعيا وتعرض للاعتقال مرات عديدة منذ الخمسينات وصاعدا والاكثر كانت خلال الستينات، سألته وقد شرح لي معاناته بسبب الاعتقالات عن وجوده الدائم امام تمثال الزعيم عبد الكريم قاسم فقال : انا من ازاح الستار عن تمثاله، حين اجلس في هذا المكان طالما اعاتب الزعيم على كلمته (عفا الله عما سلف) التي اوصلتنا الى هذا الحال السيئ، فلو انه اعدم الذين ضربوه في شارع الرشيد لما حدثت كل هذه المصائب، لما اعتقل ومات الكثير من الشيوعيين والمشتبه بهم بسبب بيان رقم (13) الصادر في 15/7/1963 الذي قضى بابادة الشيوعيين !!.

ابو جمعة.. الذي يحمل على عاتقه (83) عاما لا يهمه الا ان يعيش باقي ايامه في شارع الرشيد، وصار ابنه يعمل معه في الدكان ذاته ليواصل مسيرة والده.