مصحات العلاج الطبيعي في جمهورية التشيك

صلاح سليمان جمهورية التشيك: كثيرا ما كنت اتساءل عن اهمية وجدوي مصحات العلاج الطبيعي في جمهورية التشيك والتي تحظي بشهرة عالمية واسعة.وكيف يتم العلاج بالمياه المعدنية المستخرجة من باطن الارض؟

تبدد كل هذا الغموض عندما زرت مدينة كارلوفيفاري المنتجع الصحي الشهير والذي يبعد عن العاصمة التشيكية براغ 120 كم.

اكتسبت المدينة شهرة عالمية كبيرة في مجال العلاج الطبيعي لانها اكبر واهم المصحات التشيكية علي الاطلاق،عندما وصلنا اليها في صباح ذلك اليوم الربيعي الجميل بدت المدينة وكأنها ارتدت حلة مزركشة رائعة الالوان، فنظرة عليها من الدور العاشر من فندق الاقامة، كان المنظر مثيرا فقد تداخلت واجهات البيوت الانيقة مع مصحات الاستشفاء العتيقة واختلطت باشجار الغابات الباسقة متعددة الالوان والتي تحيطها من كل جانب واصبح المنظر اسطوري يؤكد حقيقة لماذا الناس علي المدينة من شتي ارجاء المعمورة.


جولة على الينابيع


انطلقنا في جولة في شوارع المدينة برفقة الدليل المرافق السيدة quot;Eva Richterova quot; لنتعرف علي ينابيع المدينة الهامة وقصتها.
المدينة يوجد بها 13 ينبوعا للمياه المعدنية الحارة التي تتراوح درجة حرارتها بين 41 و 73 درجة مئوية. هذه المياه تتدفق من عمق 2-2،5 كم. أما ينابيع المياه المعدنية الباردة فعددها حتى الآن ينبوعان تتراوح درجة حرارة كل منهما حول 15 درجة مئوية.
أكثر هذه الينابيع شهرة وأقواها مفعولا هو ينبوع quot;فرجيدلوquot; الثري بمياهه الجوفية المتدفقة من عمق يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف متر، وتعالج ينابيع المياه هنا في المقام الأول أمراض عملية الأيض (المبادلة) التي تسبب السمنة.، ولكنها تستخدم بنجاح أيضا للاستنشاق والحمامات.

تحيط بمواقع تدفق مياه كارلوفيفاري المعدنية اروقة مسقوفة جميلة، تتيح للزوار الجلوس حولها والتأمل فيها كذلك تتيح

ايضا مجالا واسعا للمشي البطيء أثناء احتساء المياه المعدنية الشافية المفعول.
لم استمتع فقط بشرب بعض من هذه المياه المعدنية الشافية لتذوقها والتعرف عليها، انما استمتعت ايضا بهذا المنظر المألوف في شوارع المدينة حيث يسير الناس حاملين اكواب صغيرة تباع في المدينة لها شكل مميز ويحتسون منها المياه المعدنية المجانية التي يحصلون عليها من الينابيع المنتشرة في كل مكان، لكنهم يسيرون ببطء شديد ويستنشقون الهواء النقي الصافي الخالي من تلوث، ذلك ان المدينة يمنع الدخول اليها بالسيارات الخاصة الا بتصريح خاص.


تاريخ الاستشفاء في المدينة
لقد تأسست المدينةعلي يد الامبراطور الروماني ومللك التشيك كارل الرابع في عام 1350 م وقد اكتشفت ينابيع المياه الحارة تقريبا في نفس العام.
تجدر الاشارة الي ان اول من ادخل العلاج الطبيعي في كارلوفيفاري هو الطبيب المتخصص في العلاج الطبيعي quot;فاتسلاف بايرquot; في عام 1522. وبدء معالجة مرضاه بالتوصية بشرب مياه الينابيع المتدفقة من باطن المدينة إلى جانب الحمامات من نفس المياه. لكن الطبيب quot;دافيد بيخرquot; ادخل تعديلات واساليب جديدة تختص بوسائل العلاج الطبيعي في كارلوفيفاري، فقد اجري أول دراسة علمية لمياه المنطقة اكدت اهميتها الفائقة للصحة العامة، وبدأ اعتبارا من عام 1764 تقليد جديد لإنتاج وتصدير أملاح الينابيع المائية.. ومع تقدم الابحاث عاد quot; بيخرquot; يدعو إلى عدم الاسراف في شرب المياه الشافية مفضلا عليها الحمامات.


في عام 1755 اقام quot;جون جورج بوبquot; اول مرفق صحي في المدينة يضم كل الخدمات من فندق ومطعم وصالات الاستشفاء، وعلي اثر ذلك تأسس في عام 1826 اول حمامات البخار في المدينة، ثم بعد ذلك ادخل الدكتور quot;مانلquot; سنة 1853 للمرة الأولى حمامات العلاج الطبيعي المشبعة بالحديد، ومنذ ذلك الوقت ومصحات كارلوفيفاري تتبع المدرسة البراغية المتأثرة بالعلاج الطبيعي بالمياه.

لايمكن اللذهاب الي كارلوفيفاري دون الاستمتاع بحمام معدني هكذا استلم كل عضو من الوفد المرافق دعوة لأخذ حمام في مصحة quot; ٍSpa 5 quot; والحمام من نوع يطلق عليه Pearl وهو استرخاء لمدة نصف ساعة في quot;بانيوquot; خاص ملئ بالمياه الينبوعية الصافية، وتجربتي الخاصة بعد الحمام ان الانسان يشعر بنشاط وتجدد في حيوية الجسم.
جولة علي الاقدام.

بعيدا عن المصحات والعلاج وفي جولة صباحية في المدينة نشاهد العديد من المباني المعمارية المميزة في شكلها الذي حدد معالمها في أواخر القرن التاسع عشر، فغير بعيد عنا تبدو كنيسة القديس أوندرجي وكنيسة القديسين بيتر وبول الشرقية اضافة الي مسرح المدينة من أبرز الآثار التاريخية في المدينة،الطبيعة في كارلوفيفاري تتجلي فيها عظمة وروعة الخالق فاشجار الغابات التي تكسو جبال كروشني تحيط بالمنتجع من كل جانب والمنظر يبدو شديد الرومانسية، تمتد عبر المساحات المكسوة بالغابات كيلومترات من الطرق الصغيرة تسمح للزائر بمتعة التجول والتنزه ورؤية مشاهد بانوراماية للوادي الذي تقع فيه المدينة الخلابة.
أن كارلوفي فاري ليست منتجعا للعلاج الطبيعي فحسب، بل هي أيضا مدينة يرتبط اسمها منذ ما يقرب على القرنين ارتباطا وثيقا بصنع واحد من المشروبات الروحية المعطرة والمحلاة ذات الشهرة العالمية، وإنتاج مياه الشرب المعدنية المحببة..كذلك فإن لها بريقا خاصا بفضل التقاليد العريقة في مجال إنتاج الزجاج الكريستالي والخزف، وتنظيم العديد من المهرجانات والحفلات الموسيقية الحية.


الثقافة في كارلوفيفاري
وجه المدينة الثقافي يساعد في جاذبيتها،ففيها يجري واحد اهم هذه الفعاليات الثقافية الهامة التي تستضيفها المدينة انه مهرجان كارلوفيفاري السينمائي العالمي quot;ينظم منذ عام 1946 بدون انقطاعquot; وهو يجتذب في مطلع تموز/يوليو من كل عام العديد من نجوم الشاشة الفضية وعشاق الفن السينمائي للتمتع بالأجواء الفريدة التي توفرها كارلوفيفاري، حدث اخر تستضيفة المدينة في تشرين الأول/أكتوبر من كل سنة حيث تتحول المدينة إلى ملتقى للخبراء المختصين في مجال السياحة والعلاج الطبيعي للمشاركة في ما يسمى أسبوع كار لوفيفاري وهذا الأسبوع يتضمن مؤتمرا للخبراء في المجال المعني، ايضا مهرجانا للعلاج الطبيعي، ومهرجان موزارت وكارلوفيفاري الموسيقي، المهرجان الدولي للأفلام السياحية quot;تورفلمquot;، مهرجان خريف دفورجاك الموسيقي، المهرجان الدولي لموسيقى الجاز، مسابقة أنطونين دفورجاك للغناء، متحف، مسرح المدينة، دور للعرض السينمائي، جاليريا، مقاهي للرقص، مراقص ليلية.

توجهت بالسؤال الي مرافقة الرحلة لماذا كل هذا الاهتمام بمسألة العلاج الطبيعي في الجمهورية التشيكية؟
تقول: انه الشئ الذي يميز تشيكيا علي غيرها من المدن العالمية الاخري، فلن تجدوا في أي مكان آخر في العالم مثل هذا القدر من تركز ينابيع المياه الشافية مثلما هو موجود في ما يسمى مثلث الإقليم التشيكي الغربي لمصحات العلاج الطبيعي. هذا المثلث الذي يتكون من ثلاث مدن هي منتجعات شهيرة للعلاج الطبيعي: مدينة كارلوفيفاري، ومدينة ماريانسكي لازني، ومدينة فرانتيشكوفي لازني. ولا تكتمل مجموعة المصحات التي تنفرد بها الجمهورية التشيكية على المستوى العالمي بدون الإشارة إلى مصحات ياخيموف ومصحات يسينيكي.


علي سبيل المثال في ياخيموف عام 1906 تواصلت البحوث العلمية المستندة إلى اكتشافات عالمة الكيمياء الشهيرة ماري كوري، وبدأ في هذه المدينة للمرة الأولى في التاريخ الاستفادة من الصفات العلاجية للمياه المشبعة بعنصر الرادون. أما مصحات يسينيكي فتعود شهرتها بالدرجة الأولى إلى جهود فينسينس بريسنيتس الذي بادر سنة 1822 إلى تأسيس أول مصحة للعلاج الطبيعي باستخدام الماء الطبيعي.
ويبرز هنا سؤال هل يختلاف العلاج في المصحات التشيكية باختلاف موضعها؟


قد يبدو الامر كذلك،إن ينابيع تبليتسه الحارة علي سبيل المثال تستخدم في علاج عيوب الدورة الدموية، وأمراض القلب والشرايين، وعيوب جهاز الحركة وهذه الينابيع تنتمي إلى الينابيع الأقدم من حيث المعرفة بها والأوسع استخداما في كل أوربا الوسطى.


تبليتسه أيضا لها وجه ثقافي فهي واحدة من ستين مدينة تشيكية تقع على الحدود التشيكية ndash; الألمانية، وتشهد كل عام مهرجانا يسمى quot;مهرجان وسط أوربا - Mitte Europaquot; تهتم فعالياته بفكرة إزالة الحدود الثقافية بين الدول والشعوب والأمم ويهتم بشكل خاص بصورة فريدة من نوعها في إقامة وإدامة الحوار بين الثقافتين التشيكية والألمانية.
اما مصحات ماريانسكي لازني التشيكية فقد شهدت أول موسم للعلاج الطبيعي سنة 1808، أي في وقت متأخر نسبيا، مقارنة بمصحاتتشيكية أخرى عديدة، وهي متخصصة في علاج أمراض جهاز الحركة، وأمراض المسالك البولية والكليتين، والأمراض النسائية. وتعتمد برامج العلاج على استغلال المفعول الشافي للمصادر الطبيعية المتوفرة في المدينة ndash; المياه المعدنية الباردة المشبعة بالحديد ومركباته، وغاز ثاني أوكسيد الكربون (CO2) الطبيعي، وحمامات الأعشاب الشافية. واشتهرت المدينة بانها أصبحت هدفا محببا للمشاهير الأوربيين. وفي الزمن القديم كان الملك الانجليزي إدوارد السابع يتردد على المدينة، التي أقام فيها أيضا المؤلف الموسيقي وعازف البيانو البولندي ذو الشهرة العالمية فريدريك شوبان، أو الشاعر الألماني غوته. لذلك فإن المدينة تخصص واحدا من احتفالاتها السنوية لأحد المشاهير الذين كانوا يترددون عليها في وقت سابق ndash; علي سبيل المثال مهرجان شوبان الذي تعزف فيه مؤلفات الفنان العالمي الموهوب على يد خيرة عازفي البيانو الدوليين. وتضفي التحف المعمارية مثل الردهة المصممة على طراز الباروك الحديث، أو البيوت المزخرفة، أو ما يسمى بالنافورة الغنائية، المزيد من الجمال على أجواء هذه المدينة الخلابة.


اما مصحات فرانتيشكوفي لازني فتعتبر أحد أجمل منتجعات العلاج الطبيعي التشيكية. ويجري فيها علاج أمراض الدورة الدموية والقلب والأمراض النسائية وفيها أحدث الوسائل العصرية وأكثرها تقدما. ويتم العلاج باستخدام مصادر الطبيعية المتوفرة ndash; من حمامات في المياه المعدنية الغنية بأوكسيد الكربون إلى حمامات وكمادات باستخدام الطين والأعشاب الشافية. ويندمج معمار المدينة الموحد بقالبه الكلاسيكي مع الغابات المحيطة ويتولد لدي الزائر شعورا بأن الوقت قد توقف عند نهاية القرن الـ 18 وبداية القرن الـ 19.


وبالاتجاه الي مقاطعة مورافيا حيث الطبيعة الساحرة فاننا نجد في الشمال الغربي منها أول مصحات للعلاج الطبيعي بالمياه المعدنية في العالم ndash; مصحات يسينيكي التي يتردد عليها المرضى طلبا لعلاج أمراض الجهاز العصبي، وأعصاب الجهاز الهضمي، وأمراض الجهاز التنفسي، ومتاعب الدورة الدموية. أما ينابيع ياخيموف الحارة المشعة بمحتواها المرتفع من العناصر الكيميائية النادرة فهذه تعتبر بالمقياس العالمي ينابيع فريدة من نوعها. لذلك تعتبر مصحات ياخيموف الواقعة على سفوح جبال كروشني التشيكية هدفا للمرضى الراغبين في علاج مشاكل ومتاعب جهاز الحركة.

مصحات مورافيا

واسأل عن الاسباب التي تدفع الماس الي الذهاب الي هذه المصحات؟

ان الراحة بعيدا عن مسؤوليات العمل والضغط النفسي، وعلاج المتاعب الصحية، أو جمع القوى من جديد ضمن عمليات الاستشفاء وإعادة التأهيل هي من أسباب التردد على مصحات العلاج الطبيعي. والأسباب بديهيا تتباين وتتعدد، ولذلك نجد مصحات العلاج الطبيعي التشيكية متكيفة مع هذه الحقيقة، حيث تتنوع البرامج التي توفرها لضيوفها. وما تعرضه هذه المصحات اليوم لم يعد يقتصر على البرامج الكلاسيكية المعتادة للعلاج الطبيعي والإقامة في المصحات المخصصة للمتقدمين في العمر وللأطفال فحسب، بل باتت تشمل أيضا ما يسمى ببرامج (Wellness)، أي برامج استعادة العافية.
أن مجرد السير على الأقدام في مصحات العلاج الطبيعي له مفعول مهدئ ومريح للأعصاب. ففي هذه المنتجعات يبطئ المرء من خطواته لكي يتمتع بجمال ورونق الفن المعماري الفريد من نوعه الذي تتميز به المباني هنا، والحدائق ذات الزهور اليانعة والبساتين المشجرة، وقبل هذا وذاك الردهات التي توصل السائر إلى الشوارع الخلابة ذات الأشجار المصفوفة. هكذا يشعر المرء فجأة بالراحة النفسية الشديدة. لقد خلقت هذه الأجواء المريحة من مصحات العلاج الطبيعي مناخا محببا لعقد اللقاءات الاجتماعية. فقديما كان ينظم هنا الاحتفالات الراقصة، والعروض الموسيقية والمسرحية، واللقاءات التجارية الرامية إلى توقيع العقود والاتفاقات، وشتى المناسبات لمجرد التعارف بين الناس.
في بداية آيار/مايو من كل عام تفتح المصحات التشيكية ابوابها وسط أجواء احتفالية خاصة بالموسم الرئيسي للعلاج الطبيعي، وخلال هذه الاحتفالات يعاد بصورة رمزية افتتاح ينابيع المياه المعدنية.

يقولون هنا أن نقطة البداية والنهاية في نمط الحياة الصحية تكمن في الحركة. ولكن القليل منا فقط يجد الوقت الكافي لمزاولة الحركة البدنية. ومصحات العلاج التشيكي تعتبر ان مسألة الحركة امرا بديهيا خلال فترة الاقامة فيمكن للفرد الاختيار من بين مجموعة من أنواع الحركات والنشاطات الرياضية المتوفرة في مصحات العلاج الطبيعي التشيكية. ويمكن ايضا المشي عبر شوارع وأزقة المدينة. أم من يفضلون الحركة السريعة فأنه لاتوجد اي مشكلة في تلبية هذا الطلب. فالطرق الجديدة المخصصة للدراجات في المصحات التشيكية ستمكن الفرد من القيام برحلات مختلفة الصعوبة حسب مشيئة كل زائر.