ليس لدى الكولونيل من يكاتبه!

علي رياح


هكذا نحن، وهكذا هو دأبنا دومًا، ولا فكاك منه... نتناسى (كبارنا) ثم نهبّ ملهوفين متهافتين على ذكر مناقبهم ساعة رحيلهم عن هذه الدنيا الفانية ..
رحل إسماعيل محمد من عزلته الباردة وسط جدران الدنيا الرطبة، وصار إلى جوار مليك مقتدر .. والخبر قد لا يعني الكثير من أبناء اليوم ممن لا يعرفون بأي ميزان من الذهب يمكن أن يوضع إسم الفقيد الراحل كي نعرف كم

علي رياح
يخلف غيابه من أثر لن تمحوه السنين ، لكنه خبر وقع مثل الصاعقة على أفئدة أولئك الذين عرفوه سواء من القلائل الذين تبقـّوا من مجايليه، أو من عشاقه ، أو من تلامذته وهم السواد الأغلب من المئات ممن حفروا الأرض بأقدامهم وأقلامهم ثم وضعوا الأساسات الأولى للكرة العراقية .. أو أنهم ـ بعبارة أصدق ـ وضعوا الرياضة في أرقى مكانة اجتماعية ..


ودعت الاعظمية ابنها من عزلته التي لم يذكره أو يتذكره فيها أحد ، أكاد أجزم ، فلقد انطوى إسماعيل محمد على شيخوخته ، وجعل من ذكرياته دثارًا له في داره التي تغفو بوداعة على ضفاف دجلة منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة ، ولم يظهر إلا في مناسبات بروتوكولية أو احتفائية محدودة كان بعدها يحث الخطى ويستعجل الزمن للعودة إلى عزلته !
لكني أحسد نفسي حتمًا وقد عرفته قبل ثلاث وعشرين سنة حين كان يكتب بقلمه (الباركر) الفاخر أعذب المقالات وأمتعها وأغناها عن تاريخ الكرة العراقية من البوابة التي عاشها هو لاعبا ومدربا وحكما وإداريا ومسؤولا رياضيا رفيعا .. عرفته في جريدة (البعث الرياضي) حين كان يعزف عن المجيء إلينا في بناية البتاوين ، وكنا نضطر بإيعاز من أستاذنا العظيم الراحل إبراهيم إسماعيل إلى الذهاب إليه كل نهاية أسبوع كي نستعجله الانتهاء من مقاله الممتع الذي كان يروي فيه ما قد خفي من أسرار الكرة العراقية كاستمرار للنهج الذي كان بدأه في جريدة (الثورة).. وقد سألته عشرات المرات : لماذا يضيع تاريخنا الكروي ؟ لماذا لا تتولى جمع ما كتبت بين دفتي كتاب يصدر في جزء أو جزأين ليروي للناس فصولا من مسيرة الكرة العراقية منذ الثلاثينات؟!
كان يكتفي بالابتسام في كل مرة .. ولم يكن يدرك بطيبته الممزوجة بالصرامة البادية ، أن تاريخنا الكروي قد ضاع الآن برحيله وبرحيل من سبقه من الأعلام الشواخص من آباء الكرة العراقية !
وإذا كان إسماعيل محمد وراء إعداد وتدريب أول منتخب عراقي لكرة القدم اشترك في بطولة رسمية هي الدورة العربية الثانية التي أقيمت في بيروت عام 1957 ، وإذا كان قد تولى رئاسة إتحاد الكرة فترة طويلة ، وإذا كان تسنم منصب الأمين العام للجنة الاولمبية ووكالة وزارة الشباب .. فإن ما لم تأت على ذكره الأخبار أنه كان مؤسس فن التعليق الكروي في العراق .. وقد كنت أريد التأكد من هذه المعلومة بالذات فاتصلت أمس بمعلمنا الكبير مؤيد البدري الذي قال بالحرف الواحد .. (نعم هذه معلومة لا ينكرها أحد .. إسماعيل محمد هو رائد التعليق الرياضي في العراق ) لكني عاجلت البدري بمعلومة ذكرها لي الراحل الكبير ذات يوم ، فقد قال .. (ما لا يعرفه الكثيرون أنني كنت وراء دخول مؤيد البدري ساحة التعليق .. كان ذلك في مدينة دمنهور المصرية عام 1963 حين طلبت منه التعليق على مباراة بين فريق عراقي وآخر مصري ، ومن يومها أصبح البدري نجمًا لا يبارى في سماء التعليق العراقي والعربي)...
كان إسماعيل محمد في عزلته المريرة في السنوات الأخيرة، يعيدني إلى أجواء العمل الروائي الفذ (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) للكاتب غابرييل غارثيا ماركيز ، فلقد وجد الكولونيل نفسه بعيدا عن محيطه أو أن محيطه تخلى عنه ، حتى تلك الرسائل المتباعدة التي كانت تصل إليه انقطعت ، فراح يقتفي أثرها في مكاتب البريد ، ولا جدوى!
رحل (أستاذ الأساتذة) .. أنظروا كم (أنجب) إسماعيل محمد من أساتذة في الرياضة والصحافة والتعليق والتدريب والتحكيم والإدارة ، لتعرفوا فداحة ما خسره العراق !