لفت عدد كبير من المؤرخين إلى إن برلين في عام 1936 كانت آخر مكان يمكن أن يستضيف الألعاب الاولمبية، نظرا لموجة العنصرية التي كانت سائدة في ألمانيا، وهي طبعا عكس المثل الاولمبية ومبادئها السامية.

أقرت اللجنة الاولمبية الدولية منح برلين تنظيم ألعاب الاولمبياد ال11 عام 1932، لكن الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر تسلم مقاليد حكم ألمانيا العام التالي... واتخذ من إقامة الألعاب عنصر دعاية مهم ودعما وإلهابا لحماسة الشعب وتقوية روح الاعتزاز بالعنصر الآري لدى أفراده، ما جعلها تفقد للمرة الأولى غايتها المثلى وتحيد عن هدفها الحقيقي الذي أراده باعثها البارون الفرنسي بيار دو كوبرتان، وهو دعم روح الصداقة بين الرياضيين المشاركين لنشر السلام العالمي. وللمصادفة، فان دو كوبرتان توفي في العام التالي لاختتام الاولمبياد أل11، ودفن قلبه في اولمبيا (اليونان).

ويذكر ان دولا عدة سعت الى نقل الالعاب الى مدينة برشلونة الاسبانية، التي زاحمت برلين عند الترشح. غير إن الحكم الفاشي الذي ساد أسبانيا وقتذاك عمل على أن تبقى المنافسات في برلين، وهي أقيمت بين 2 إلى 16 آب/أغسطس بمشاركة 4973 رياضيا بينهم 328 لاعبة من 49 دولة.

وحضرت للمرة الأولى بعثات من أفغانستان وجزيرة برمودا وبوليفيا وكوستاريكا وليشتنشتاين وبيرو.

وشمل برنامج المسابقات كرة السلة والملاكمة والمصارعة والدراجات وكرة الماء وكرة اليد واليخوت والسباحة والغطس والبولو والخماسي الحديث والرماية ورفع الأثقال والجمباز والتجذيف والفروسية والمبارزة والهوكي على العشب وكرة القدم وألعاب القوى... وأصبحت كرتا السلة واليد للمرة الأولى ضمن البرنامج الرسمي.

وتصدرت quot;القوة الألمانيةquot; ترتيب الميداليات ب33 ذهبية و26 فضية و30 برونزية، امام الولايات المتحدة (24-20-12) والمجر (10-1-5)... لكن نجم الدورة التي حظيت بحضور مكثف (نحو ثلاثة ملايين شخص) لم يكن ألمانيا إنما جيسي اوينز (23 عاما) القادم من الاباما في الجنوب الاميركي والذي انتزع أربع ذهبيات في سباقات 100 م و200 م والتتابع 4 مرات 100 م والوثب الطويل.

ومنح الرباعون المصريون بلادهم الميداليات من المعادن المختلفة، إذ فاز خضر التوني بذهبية وزن المتوسط، ومحمد مصباح بذهبية وزن الخفيف، وصالح سليمان بفضية وزن الريشة، وابراهيم شمس ببرونزيته، وإبراهيم واصف ببرونزية خفيف الثقيل.

وعكست الدورة في بعض فقراتها الصورة الايجابية لquot;العنفوان الألمانيquot;، إذ أنه رغم إصابته بكسر في ترقوته خلال سقوطه عن صهوة فرسه أثناء القفز على الحواجز في المسابقة الكاملة للفرق، اضطر الملازم كونراد فون فانغينهايم إلى المشاركة لان انسحابه سيقصي منتخب بلاده.

شارك فانغينهايم في المسابقة لكن فرسه تعرضت للسقوط في احد الحواجز، وهو quot;تدحرجquot; من فوقها.. ونهض معتقدا أنها ماتت، لكنها وقفت بدورها... وتابع الفارس والفرس المسابقة من دون أن يرتكبا أي خطاء في باقي الحواجز... وتوجت ألمانيا بطلة اولمبية، وصفق مئة ألف متفرج بحرارة للملازم الشجاع.

رفعت ألمانيا سقف التحدي عاليا، فشيدت في اشهر معدودة ملعبا عملاقا يتسع لمئة وعشرة ألاف متفرج، ولا يزال صامدا حتى ألان شاهدا على عصر الهندسة والتصاميم النازية.. وخصصت للرياضيين قرية اولمبية مترامية الاطراف وسط غابة ومناظر خلابة، واعتمد حوض سباحة اولمبي تحيط به مدرجات تتسع ل20 ألف.

وكان استاد برلين أصلا معلما معماريا أنجز العام 1912، ويتسع ل30 ألفا، ويضم مضمارا للجري بلفة طولها 600 م بطلب من الاتحادات الرياضية وقتذاك.

وعهدت السلطة إلى البروفسور مارش نجل مهندس الاستاد بتوسعته. ولما دخل هتلر بعد انتهاء الأعمال وجده صغيرا من وجهة نظره في ما يتعلق بأنشطة الحركة النازية وشبيبتها وتجمعاتها، إذ لم تكن للرياضة الأفضلية والأهمية في هذا الإطار. لكن الغاية تبرر الوسيلة، فمن اجل أفضل إخراج للألعاب يعكس الصورة الايجابية للنازية وquot;تسامحهاquot; وترحيبها، طلب الفوهرر من وزير الدعاية والأعلام في حكومته جوزف بول غوبلز أن يحول برلين إلى واحة تسامح والفة.. وكان يجول معه وبصحبة قائد الطيران هيرمان غورينغ متفقدين مرافق الدورة ومطلعين على تطور الاستعداد لها... فلا عجب أن علقت أعلام عملاقة تحمل شعارين متناقضين الصليب المعكوف والحلقات الاولمبية، ولم يعد غريبا سماع صيحات الشبيبة النازية تحيي الشعلة والألعاب وهي ترتدي زيا واحدا، ويرافق أفرادها الوفود!

ومن جديد الألعاب التصوير التلفزيوني والإنتاج السينمائي... فيلم عن الدورة وأجوائها صورته وأخرجته ليني ريفنشتال (36 عاما) وأرادته من دون تعليق يثير اهتمام الجميع وليس محبي الرياضة ومزاولي ألعابها فقط.. لكن quot;اعتبره بعض الحساد دعاية لهتلر واني مقربة منه واعمل بإيحائه وكأني بامبادور الرايخ الثالث! لكن حصلت على إذن تصويره من اللجنة الاولمبية الدولية، وهو نجح لأنه تعاطى باستقلالية تامة مع الأفكار والاتجاهاتquot;، علما أن غوبلز تمنى الا تركز مشاهده كثيرا على الإبطال من الأعراق الملونة.

أما التطور التلفزيوني والنقل المباشر فبدأ من خلال الموجات الهرتزية المبثوثة عبر الكابلات وكانت أيضا بداية اعتماد الكاميرات السائرة على سكة خاصة إلى جانب مضمار الجري.

في 2 آب/اغسطس 1936 استعرض هتلر في الاستاد 4 ألاف رياضي ممدودي الأيدي في تحية quot;اولمبية غير مألوفةquot; وبعضهم تصرف على طريقته وبينهم الاميركيون الذين ساروا أمام المقصورة الرئيسة وقبعاتهم ملصقة بصدورهم... وفاقت الهستيريا الجماهيرية كل حد، وكانت لها ردة فعل معاكسة على الابطال الألمان المطالبين بالفوز ولا شىء غيره ما ولد ضغطا كبيرا على كاهلهم، فكانت الصيحات ترتفع من كل صوب توجه وتحفز.. كما حصل مع رامي القرص ويلي شرودر إذ نافس وأذناه تضجان بجملة واحدة quot;وأنت ترمي فكر في وطنك وزعيمك...quot; لكنه خسر بفارق أكثر من متر امام الاميركي كين كاربنتر ... غير أن هتلر سر من الألمانيات تحديدا، إذ سجلت جيزيلا مورماير رقما عالميا في رمي القرص (63ر47 م)، وهزمت لويز كينجر بطلة رمي الرمح البولندية ماريا كاوسنيكايا (29ر43 م في مقابل 83ر41 م)، لكن تيلي فلايشر خطفت الأضواء الأخيرة بتسجيلها رقما اولمبيا مقداره 18ر45 م.

ولعل الألمان عموما وهتلر وأركانه خصوصا ارتاحوا لنتائج منافسات القوة التي أظهرت أن الشعب يسير إلى الإمام... ففي دفع الكرة الحديد رمى الشرطي هانس وولكي الثقل مسافة 20ر16 م معززا الرقم الاولمبي ورقي إلى رتبة ملازم.. وحطم مواطنه كارل هاين الرقم الاولمبي لرمي المطرقة مسجلا 49ر56 م، وحل مواطنه أرفين بلاسك ثانيا (04ر55 م). ونال ذهب رمي الرمح غيرهارد شتوك (84ر71 م)، وكان حل ثالثا في الكرة الحديد.

وفي سباق التتابع 4 مرات 100 م كانت الألمانيات المرشحات البارزات للفوز، إذ حطمن الرقم العالمي في نصف النهائي، وتقدمن في المواجهة الحاسمة بعشرة أمتار على باقي المنافسات، غير أن المفاجأة فعلت فعلها حين سقطت عصا البدل من يدي ايليزي دورفلت فأستبعد الفريق، وطار اللقب إلى الاميركيات... غير أن الآتي أعظم من بعثة الولايات المتحدة وتحديدا السود من أفرادها.

فللمرة الأولى في الألعاب الاولمبية يرتفع حاجز الوثب العالي إلى مترين، وقد اجتازه الاميركيان الأسود كورنيليوس جونسون والبيريتون. وعاد جونسون وتجاوز 03ر2 م وهو رقم اولمبي جديد صمد 16 عاما. وبات أول اسود يقطف الذهب في برلين تحت أنظار هتلر.

كما شهد سباق 800 م، صراعا بين عدائين أسودين هما الكندي فيليب ادواردز والاميركي جون ورودورف الذي فاز مسجلا 09ر52ر1 دقيقة.

هذه المؤشرات كانت quot;تمهيداquot; لسطوع نجم جيسي اوينز، فقبل عام واحد حطم أو عادل ستة أرقام عالمية، وسبقته شهرته إلى برلين كونه quot;ملك سباقات السرعة والوثب الطويلquot;.

في نصف نهائي سباق 100 م خطف اوينز البريق والاهتمام كلهما، إذ سجل 2ر10 ثوان، لكن الزمن القياسي العالمي الجديد لم يعتمد بسبب تجاوزه سرعة الريح المعدل.

إنتقل اوينز إلى الدور النهائي ليواجه العداء الألماني بورش ماير الفائز في نصف النهائي الثاني ومحط أنظار مواطنيه، لكن فتى الآباما عادل الرقم العالمي 3ر10، وحل مواطنيه رالف متكالف (أسود أيضا) ثانيا (4ر10 ث).. ثم فاز اوينز في سباق 200 م (7ر20 ث). وفي التتابع 4 مرات 100 م، أعطى اونيز العصا لزميله الرابع متكالف الذي هب كالريح إلى خط النهاية، والحصيلة رقم قياسي عالمي جديد من صنع اميركي (8ر39 ث).

كظم هتلر غيظه لعل وعسى يتمكن لوتس لونغ من النيل من اوينز في الوثب الطويل.وبدأ لونغ المنافسة مسجلا 54ر7 م في المحاولة الأولى، فرفع اوينز سقف التحدي مسجلا 74ر7 م، وسارع الألماني إلى بلوغ مسافة 84ر7 م، فحاصره الاميركي ب 87ر7 م، ولم يستطع لونغ أكثر من معادلة هذا الرقم في محاولته الأخيرة مسجلا رقما اوروبيا جديدا. لكن اوينز استجمع قواه ليقول كلمته في مسك الختام ووثب 60ر8 م ... رقم عالمي صمد 24 عاما... وغادر هتلر الاستاد على الفور في حين كانت ترتفع على السواري اعلام الولايات المتحدة وألمانيا واليابان التي حل مواطنها ناوتو تاجيما ثالثا... اعلام دول أركان في حرب بدأ الاحماء لها.

وكان الاستاد الاولمبي في برلين محطة ذكريات لاوينز بعد أربعة عقود من انتصاره المدوي، وهو اعتبر أن سباق المئة متر كان quot;ساعة الحقيقة التي دقت. هذا النهار انتظرته تسع سنوات، تسع سنوات من التدريب المضني والسباقات التي لا تحصى.. وقفت في الحارة الأولى عند خط الانطلاق وتلاطمت في رأسي أفكار كثيرة تزاحمت وتداخلت. تذكرت مدربي ونصائحهم، مدينتي وزوجتي وعائلتي، المدرسة والأصدقاء وأوقات الطفولة، وبحركة لا شعورية مسدت بيدي العلم الاميركي على قميصي، فانا هنا من اجل بلادي. شعرت حينئذ أن قدماي لا تقويان على الوقوف، إرتختا تحت ثقل جسدي الغارق بوزن الأفكار، بدأت يداي ترتجفان وجف حلقي، كيف لا وخلاصة السنوات التسع ستمر في شريط مدته 10 ثوان. انتفضت وكأني أصحو من غيبوبة طويلة. علي التركيز والانعزال للحظات امام هذا الحشد الكبير، إلى جانبي سبعة عدائين قادر كل منهم على الفوز وليعلن أسرع رجل في العالم... قررت إلا أتطلع يمينا أو يسارا صرت متلهفا لسماع طلقة البداية والجري، أخذت وضع التحفز للانطلاق وصوبت عيني على ارض المضمار وخط النهاية فيه... وانطلقت في السباق الأكبر في حياتيquot;.

واستقبل اوينز العجوز من قبل حشد من المعجبين والصحافيين، انتظروه وسروا بلقائه ومصافحته وإلتقاط الصور معه ومحادثته والحصول على توقيعه.. وكان سروره عظيما. quot;انه أجمل تقدير لي ولم أتوقعه، حين شاركت في الألعاب الاولمبية كان أباء هؤلاء صغارا أو لم يولدوا بعد... ومن خلال منافستنا في الألعاب كانت رسالتنا واضحة للنازيين... لا دخل للسياسة في الرياضة، وبرهنا أن الولايات المتحدة هي وطن المساواة والعادلة والفرص المتاحة للجميعquot;.

وحضرت في بال اوينز خاطرة رواها مبتسما quot;طلبت لجنتنا الاولمبية ان اكرم بالجلوس في المقصورة في استاد برلين فرفض النازيون طلبها، وان كنت سعيدا جدا بالرد السلبي صدقوني...quot;

quot;نجحتquot; الألعاب وتلقى الفوهرر الشكر من رئيس اللجنة الاولمبية الدولية الكونت باييه لاتور، وطلب من الرياضيين الاستعداد للألعاب الاولمبياد ال12 بعد أربعة أعوام في طوكيو... لكن شعلة الحرب وأعلامه تقدمت كل ما عداها من جديد وحرقت المثل والأهداف النبيلة... ومثلما ألغيت ألعاب طوكيو 1930، حذفت ألعاب لندن 1944.. فلا وقت إلا للقتل والدمار.