عادل درويش*

يتحدث دافيد كاميرون في مذكراته عن أخطاء توني بلير، وعن خيبات الربيع العربي، والعلاقة مع الشركاء العرب في مقدمهم السعودية، وعن نصيحته لمبارك قبل تنحيه.

خاص إيلاف من لندن: في كتابه الصادر هذا الأسبوع بعنوان "شهادة رسمية" For The Record (752 صفحة، منشورات ويليام كولينز، 25 جنيهًا استرلينيًا) عن أيامه في داوننغ ستريت، يعترف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق دافيد كاميرون أنه فوجئ، كما كل المؤسات البريطانية والغربية، بالانتفاضات في شمال أفريقيا في عام 2011 التي سماها البعض – من دون تدقيق - "الربيع العربي". وما كانت تقارير مجلس الأمن القومي، والمخابرات البريطانية، وتقارير السفراء في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن إلى وزارة الخارجية تتوقع انتقال الانتفاضات شرقًا بعد أحداث تونس في نهاية عام 2010.

هذا الكتاب هو أطول وثيقة لشبه اعتذار عن إخفاق زعيم منتخب ديموقراطيًا في إقناع شعبه بالتصويت على البقاء في الاتحاد الأوروبي وإخفاقه عن تحقيق السياسات التي وعد بها.
لكنه، بصفته سياسيًا، يبدو مخيبًا للآمال في الفصول المتعلقة بفترتي رئاسته لحكومتي الائتلاف مع الديموقراطيين الاحرار (2010-2015)، ولحكومة أغلبية محافظين من عام 2015 حتى استقالته في 2016.

إعترافات وأخطاء

لست المعلق البرلماني الوحيد في وستمنستر الذي يراه مفتقدًا للشجاعة المطلوبة في رجل الدولة للاعتراف بالأخطاء مثل اعترافه الضمني بالأخطاء في فصول السياسة الخارجية المتعلقة بالمنطقة العربية.

فهو يلقي باللوم على زميلي دراسته السابقين وصديقيه بوريس جونسون، رئيس الوزراء الحالي، ومايكل غوف نائب رئيس الوزراء الحالي، قائلًا إنهم لوحا بالبقرة المقدسة اي بالخدمات الصحية بانها ستكون أفضل خارج الاتحاد الأوروبي، ويبرر فشله بعوامل خارجية مثل وضوح رسالة الحكومة للشعب، وأن أنصار الخروج من الاتحاد أثاروا مخاوف من الهجرة، متجاهلًا السبب الرئيسي وهو إخفاق حكومته في الحصول على صفقة مع الاتحاد الأوروبي مقنعة للناخب البريطاني.

أما في الفصول المتعلقة بالسياسة الخارجية، كالدفاع والإنفاق على حلف شمال الأطلسي أو العلاقة مع الحلفاء العرب خصوصًا السعودية ومصر وبلدان الخليج ومواجهة الأخطار الإيرانية ومحاولة التحكم في تجاوزات أنظمة ديكتاتورية كنظام البعث برئاسة بشار الاسد في دمشق مثلًا، فهو يلمح إلى عرقلة سياسات الاتحاد الأوروبي للسياسة البريطانية التقليدية، وخشية البرلمانيين من تكرار أخطاء توني بلير بجر البلاد الي مواجهات عسكرية.

عن الربيع العربي

يحمل الكتاب انتقادًا مبطنًا للرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي لقوله: "بريطانيا كانت سابقة لفرنسا وللقوى الغربية الأخرى في وعيها بما حدث في تونس عقب الانتحار حرقًا في السوق. بينما استمر ساركوزي في دعمه (للرئيس التونسي الراحل زين العابدين) بن علي... بعد أن بدأ العالم يدعم الشعب التونسي ضده".

والانتقاد الآخر أنه كان لا يزال في القطار متجهًا للقاء ساركوزي في مؤتمر طارئ لحماية شعب بني غازي من تهديد القذافي، وفوجيء بقرار ساركوزي إرسال الطياران الفرنسي لمواجهة المدرعات الليبية قبل وصوله باريس.

في فصل بعنوان "ليبيا والربيع العربي"، مثلت ليبيا التدخل البريطاني العسكري الوحيد المعلن، فالتدخلات السرية الأخرى يلمح لها في الكتاب ولا يذكرها، منذ توليه السلطة. وكان في عشاء في عمان مع السطان قابوس عندما جاءه هاتف عن حوادث ليبيا وتهديد العقيد معمر القذافي وابنه سيف الاسلام "بمذبحة في بنغازي ستكون على غرار ما حدث في سربينستا (أثناء حرب البلقان في التسعينيات)".

صدمة كبرى

كان كاميرون يواجه برلمانًا غير راغب في التورط في السياسة الخارجية في أعقاب 12 عامًا من حكومة عمالية بزعامة توني بلير ثم غوردون براون. فسياسة بلير ورطت البلاد في 12 تدخلًا عسكريًا، اشهرها حربي العراق وافغانستان، ضحي الشعب البريطاني فيهما بأفدح الخسائر من أبنائه منذ الحرب العالمية الثانية، واستمرت حرب افغانستان وقتًا أطول من الحرب العالمية. وكان كاميرون ونواب مجلس العموم – الذين يتهمون بلير بخداعهم وتضليلهم للتصويت بالحرب في العراق في عام ٢٠٠٣ - متوجسين وحذرين من أي مغامرات عسكرية مثلما اكتشف في خسارته التصويت لمشاركة الرئيس الأميركي باراك أوباما ضربة عسكرية ضد سورية في عام ٢٠١٦.

وربما كانت مصر وسقوط نظام حسني مبارك الصدمة الكبرى لحكومة كاميرون لما تمثله مصر من ركيزة أساسية للسياسة البريطانية في المنطقة أكثر من 100 عام ولمحور لندن - القاهرة - الرياض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي أساس فكرة الجامعة العربية.

نصحت مبارك

يقول كاميرون إن كل المستشارين نصحوه بالتريث وعدم التخلي عن الحليف حسني مبارك عند اندلاع الانتفاضات في مصر بعد تونس. ويعترف أنه لعدة ايام صدق تقرير وزارة الخارجية البريطانية التي وضعت تقديرها في 27 يناير ٢٠٠١ "بأن نجاح الانتفاضة الشعبية في الاطاحة بمبارك يقدر باقل من أربعة إلى عشرة".

يعبر كاميرون عن استيائه من تحليل بعض الخبراء والمؤرخين قائلًا إنه لم يقبل أبدًا بالفكرة السخيفة بأن "بعض الشعوب لا يستطيع ممارسة الديمقراطية"، وكان في اشد حالات التفاؤل بنجاح الانتفاضة في 11 فبراير في مصر، خصوصًا أنه في الثاني من فبراير منح تاييده للشعب المصري وتطلعه للديمقراطية وهو على عتبة 10 داوونغ ستريت وبجانبه ضيف بريطانيا السكرتير العام لامم المتحدة بان كي مون.

اما سبب التحول في موقف كاميرون فكان موقفه غير المفهوم من الرئيس المصري السابق الذي اعتبره "غير حكيم ومخيب للآمال".

بادر كاميرون بالاتصال هاتفيًا بمبارك يوم 29 يناير. يقول: "توسلت إليه أن يظهر المرونة للمتظاهرين إذا أراد الاحتفاظ بمنصبه، وأن يقاوم فكرة استعمل العنف لقمعهم".

يضيف الزعيم البريطاني الاسبق: "كان مبارك سينجح لو وعد بأجراء انتخابات رئاسية وإصلاحات، وكان الاستقرار ساد مصر".

كان كاميرون رفض نصيحة مستشاريه بتأجيل جولة له في المنطقة العربية مرتبة مسبقا بحجة عدم الاستقرار، بعد انتفاضتي تونس ومصر وسقوط مبارك. لكنه قال إنه لا يمكن التاثير في الإحداث "إلا إذا ذهب، خصوصًا أن أصدقاء بريطانيا في حاجة إلى الدعم الآن".

استجاب لطلب المجلس العسكري الانتقالي وتقدمت حكومته من المحكمة بطلب تجميد أرصدة وثروات اسرة مبارك التي تقدر بنحو 80 مليون جنيه.

أفرط في التفاؤل

بدا كاميرون - حيث يبن الكتاب بعض سذاجته السياسة – مفرطًا في التفاؤل بشأن التقدم والتطور عقب الانتفاضات والثورات.

في الفصل الثالث والثلاثين، ينحسر هذا التفاؤل ويصف كاميرون الربيع العربي "بتراجيديا بالحركة البطيئة"، مضيفًا: "لم يخبرنا أحد ولم يتنبأ أحد بأن أحلك الساعات ستكون في سورية".

كانت الانتفاضة في مصر في قمتها في أثناء جولة وزير خارجيته ويليام هيج للمنطقة، "وكان آخر وزير خارجية غربي يزور بشار الأسد وأول من زار تونس بعد سقوط بن علي في جولة شملت الأردن واليمن والإمارات والبحرين". نصحه هيغ بالذهاب بأسرع ما يمكن لمقابلة الأصدقاء العرب وإظهار وقوف بريطانيا بجانبهم.

يصف كاميرون كيف كانت بريطانيا أول من تحرك لدعم الشعوب أو للتباحث مع الانظمة الصديقة، والبحث عن أفضل سبل العودة إلى الاستقرار، بينما "تباطأ الأوربيون ولم يتحرك الفرنسيون الا للتدخل في ليببا"، ملمحًا إلى انتهازية الفرنسيين، "بينما تغيب الألمان عن المشهد تمامًا".

وعلى الرغم من أن كاميرون لم يقلها صراحة، فإنه على ما يبدو لم يقدم على التصريح المشترك بشأن مصر مع الأمين العام للامم المتحدة إلا بعد التأكد من موقف أوباما لعدم وضوح الموقف الأميركي من أحداث مصر في نهاية يناير 2011.

فوجيء بأوباما يقول له هاتفيًا إن على مبارك الرحيل، "بينما مبعوثو أوباما إلى مصر يصرحون أن مبارك يجب أن يكون ضمن أي خطة مستقبلية". فأوباما بدا غاضبًا ويبدو أنه لم يكن يعرف بموقف وزارة خارجيته.

السعودية شريك كامل

على الرغم من عدم اعترافه مباشرة بالافراط في التفاؤل في ربيع 2011، فإنه أكد مرات عجة أن الأنظمة الملكية العربية أثبتت أنها قاعدة الاستقرار، واكد أهمية الشراكة معها، خصوصًا المملكة العربية السعودية.

ويحكى عن اجتماع مجلس الوزراء وكيف تأثر بعضهم بالحملة الدعائية التي تشنها الصحافة على السعودية والخليج. يقول إنه ووزير الخارجية هيغ أكدا للآخرين أن العلاقة مع السعودية ليست بالبساطة التي تصورها الصحافة، بأنها مجرد تجارة، "فالسعودية شريك وحليف وهي حاضنة أهم حرمين للإسلام في مكة والمدينة وبالتالي دورها محوري في العالمبن العربي والإسلامي، كما أنه البلد الوحيد بين بلدان الجامعة العربية في جماعة العشرين الاقتصادية. والسعوديون شركاء لا غنى عنهم للأمن القومي ومحاربة الإرهاب ومن دونهم لكنا ضحية عمليتين إرهابيتين كبيريتين، إحداهما تسريب قنبلة في مخبأة في آلة طباعة من اليمن إلى أميركا عبر بريطانيا".

إلقاء اللوم

يختتم كاميرون كلامه عن خيبته من الربيع العربي بقوله إن الأنظمة الملكية العربية كانت الأكثر نجاحًا في الاستجابة للانتفاضات والمطالب الشعبية من الجمهوريات". يصف عناصر هذا النجاح بتضافر الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي قدمتها الملكيات العربية لشعوبها مع الإصلاحات والتطورات الاقتصادية والتعاون مع بعضها وجيرانها، بدلًا من القمع الذي يمارسه جيرانها.

وعلى الرغم من أن الكتاب في مجمله يمثل محاولة من كاميرون لإلقاء اللوم على الآخرين، فإن فصول مشاوراته ومفاوضاته مع الاتحاد الأوروبي ستجعل من يقرأه يفضل الخروج على البقاء، حتى لو كان من محبي الوحدة الأوروبية.

هناك أمثلة عديدة على مقاومة بيروقراطية بروكسيل للإصلاح والتطور، واندفاعها نحو فيدرالية أوروبية وورؤيتها أن الانتخابات والديمقراطية على مستوى الدولة القومية يعرقلا مشروعها الفيدرالي.


* محلل برلماني في بريطانيا
&