بعدما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، دخلت روسيا في حرب أهلية حسمها الجيش الأحمر في عام 1922، وصاحب هذا التردي في الأوضاع شتاء قارس ومحصول شبه منعدم، ما أدخل روسيا في مجاعة قاسية. فهبّت أميركا لعون البلاشفة.

"إيلاف" من بيروت: للولايات المتحدة وروسيا تاريخ طويل من العداء. عندما انهار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 احتفلت أميركا بالنصر. وعندما وصل فلاديمير بوتين إلى الحكم، تعهد بالانتقام من التاريخ وجعل روسيا عظيمة مرة أخرى، ورفع من الهستيريا المعادية لأميركا، ليأتي بعدها الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويدخل في كباش سياسي مع موسكو، متعهدًا بوضع المصالح الأميركية الضيقة أولًا.

لكن هذا العداء القديم والشرس تخلله بعض الاستثناءات، وفي سرد لأكبر جهد إنساني على الإطلاق قامت به الولايات المتحدة لإنقاذ ملايين الأرواح في الدولة السوفياتية الناشئة منذ قرن من الزمان، يروي المؤرخ الأميركي دوغلاس سميث في كتابه الجديد "العملية الروسية" The russian job (المؤلف من 320 صفحة، منشورات ستروس وجيرو، 28 دولارًا)، كيف تعرّضت روسيا للجفاف بين عامي 1920 و1922 وواجهت واحدة من أسوأ المجاعات في أوروبا على الإطلاق.&

موجة الجوع
أدرك قائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين أن الغذاء يعني السلطة، وتخلى عن شيوعية الحرب لمصلحة &سياسة اقتصادية جديدة حلت محل الاستيلاء على الضرائب وقدمت بعض التنازلات إلى الرأسمالية. لكن هذه الخطوات كانت متأخرة، وبحلول نهاية عام 1921، استسلمت الأراضي الشاسعة على طول نهر الفولغا للموت جوعًا، ويُحكى أن عدد ضحايا الجوع وصل تقريبًا إلى 5 ملايين. وكانت بعض الأمهات تعمد إلى قتل أبنائها الأكبر وأكل لحمهم حتى تستطيع إرضاع الأطفال الاصغر.

بعد وصول البلاشفة إلى السلطة، وإطلاقهم الوعود بتوفير الخبز وإنهاء الحرب، واجه البلاشفة احتمال أن يجرفهم الجوع. وبينما كانوا غير قادرين على إطعام شعبهم، تحوّل قادة الثورة البروليتارية إلى الغرب طلبًا للمساعدة. وناشد مكسيم غوركي، الكاتب البلشفي الذي اعتاد على مهاجمة الرأسمالية الأميركية، "جميع الشعوب الأوروبية والأميركية الصادقة لتقديم الخبز والدواء". مشيرًا إلى أن بلد ديستويفسكي وتولستوي ومندلييف مقبل على أيام حالكة.

تنازل البلاشفة
تفاعل رئيس إدارة الإغاثة الأميركية هربرت هوفر، وهو مهندس مناجم نجح في عمله الهندسي في خارج وداخل الولايات المتحدة، حيث عمل في الصين وأستراليا، مع النداء الروسي، وعلى الرغم من بغضه للبلاشفة وطغيانهم، فقد تحرك إيمانًا منه بمهمة أميركا وقدرتها على تحسين العالم.

لتبرير حجته بضرورة مساعدة الشعب الروسي، قال هوفر حينذاك: "إذا كان الأطفال يتضورون جوعًا، فستضطر أميركا إلى تخفيف معاناتهم. يجب أن نميّز بعض الشيء بين الشعب الروسي والمجموعة التي استولت على الحكومة".

تعهدت إدارة الإغاثة الأميركية بالمساعدة من دون اعتبار "للعرق أو العقيدة أو الوضع الاجتماعي". وبعدما قام النظام البلشفي بتصفية فئات كاملة من المواطنين وتأميم الملكية الخاصة والحياة البشرية، كان هذا النظام مخيّرًا بين التنازل أو خسارة البلد، لذلك أقر البلاشفة بشروط الإدارة الأميركية في أثناء وضع العملية تحت مراقبة الشرطة السرية.

مواجهة المجاعة
لا يُعد كتاب سميث تاريخًا سياسيًا، بقدر ما هو عملية إعادة بناء لحياة هؤلاء الرجال الذين ينتمون إلى إدارة الإغاثة الأميركية، وهم بمعظمهم من العسكريين الأميركيين الذين تولوا مهام الحكومة المدنية في روسيا على مدار أكثر من عامين ونصف عام، وساعدوا على إطعام نحو 10 ملايين شخص.

في منطقة الفولغا، حيث كان السكان يموتون من الجوع، أو يأكلون اللحم البشري، شيّدت إدارة الإغاثة الأميركية المطابخ ووسائل النقل، ووزعت الأغذية وأعادت بناء المستشفيات.

نجح هوفر في الحصول على موافقة الكونغرس بفضل مساندة لوبي المزارعين. وهكذا إعتمد الكونغرس المبلغ اللازم لتنفيذ مشروع هوفر، وهو 20 مليون دولار. كان طريق الشحنات طويلًا، حيث يبدأ في نيويورك عبورًا للأطلسي، ثم مرورًا بمضيق جبل طارق فالبحر المتوسط بكامله، مرورًا إلى البحر الأسود عبر البوسفور، ومن هناك يتم توزيعها على المناطق التي تضررت بشدة من الجوع، ومعظمها يقع في الجزء الآسيوي من روسيا.

نفاق البلاشفة
على الرغم من الجهود التي بذلت، فإن نفاق الحكومة السوفياتية وكرهها كانا يطاردان عملية إدارة الإغاثة الأميركية حتى النهاية. وفي حين أن قادة البلاشفة وجّهوا علنًا رسائل الثناء والشكر إلى الأميركيين، أصدرت الشرطة السرية الروسية تعليماتها للمسؤولين المحليين كما يأتي: "تحت أي ظرف من الظروف، لن يكون هناك أي تعبير عن الامتنان يُقدم باسم الشعب إلى أميركا".

وصفت طبعة الموسوعة السوفياتية العظمى لعام 1950 إدارة الإغاثة الأميركية بأنها واجهة "لأنشطة التجسس والفساد ودعم العناصر المضادة للثورة". أما الكتب المدرسية الروسية الحديثة فهي بالكاد تذكر هذه الحادثة.

لكن، ليست روسيا وحدها هي التي يجب تذكيرها بهذه القصة، بل أميركا أيضًا، التي استمدت الكثير من عظمتها في القرن العشرين من قيمها، لا من قوتها العسكرية. وهنا نستذكر ما قاله غوركي لهوفر: "إن سخاء الشعب الأميركي ينعش حلم الأخوة بين الناس في وقت تحتاج فيه الإنسانية صدقة ورحمة".


أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن " إيكونوميست". الأصل منشور على الرابط:
https://www.economist.com/books-and-arts/2019/11/09/a-century-ago-america-saved-millions-of-russians-from-starvation