سعد أحمد ضيف الله*
الغيبوبة نوم بلا أمل، أو بأمل ضعيف. متى تحقق الاستيقاظ، كتبت الحياة للمستيقظ من جديد، فتكون الحياة الجديدة انعكاسًا لدراما الروح في غيبوبتها. إقرأوا "الاستيقاظ من الموت" لعفاف البدر.
إيلاف: مساهمة جديدة في الارتقاء بواقع الحياة تقدمها عفاف البدر في روايتها "الاستيقاظ من الموت" (64 صفحة، دار الخيال للطباعة والنشر والتوزيع، 9 دولارات)، فتنهج نهج مستكين لحلحلة المآسي والصراعات التي تقّيد بني البشر عن التقدم ابتداءً من الدائرة الأولى، دائرة الذات.
الميزة في هذه الرواية أنها تشكل وثيقة تاريخية لحوادث مرت بها الكويت والعالم، كالغزو العراقي وحركة المقاومة الوطنية، وكشمير ومروجها الخضراء والأوضاع الأمنية فيها، والهجمات على مبنيي مركز التجارة العالمي... وربط ذلك بمجريات وحوادث درامية من نسج الخيال.
استفاق من غيبوبته
تتلخص الحكاية في حياة صالح الذي يصاب برصاصة طائشة في صدره بعد التحرير، وينقل على أثرها إلى المستشفى، ويغيب عن الوعي. يبدأ ذووه في دوامة البحث عن علاج في الداخل والخارج، بينما صالح – السارد بضمير المتكلم – هائم في ملكوته الداخلي.
تمتد الغيبوبة عشر سنوات، إلى أن تطلّع هو ذاته إلى هجر السرير بالطريقة التي اختارها لنفسه وبعزيمته وإرادته، حيث كانت زوجته لينا الهندية التي تسهر الليالي للإشراف على صحته طوال الفترة الماضية تجهز طفلتهما مريم للذهاب إلى المدرسة. سمعت صوت سقوط وحركة غير معهودة صادرة من غرفته، فأسرعت باتجاه الغرفة وتبعتها الصغيرة.
في هذه اللحظة ارتدت إليه روحه بأفضل حالها، فتهيأ له أنه سقط من السماء فأنفصل عن جسده الفيزيائي، وأفاق بجسد أثيريّ ليرى لينا مقبلة عليه فزعة، فيفترش أحضانه كي يعانقها، إلا أنها تمر من خلاله. يثني ركبتيه ليحتضن ابنته التي لم يعهد ولادتها فتخترقه هي الأخرى، إلا أنها تشعر ببرودة غريبة لا تعرف ما هي. تلتفت فلا تراه، ويستدير ليرى جسده المتهالك على السرير وقد تحركت الأنابيب الموصولة عبر أنفه للطعام وعبر حلقه للتنفس.
أنا أصدقك
ينظر إلى الأجهزة فإذا بإشارات مختلفة عن السابق تظهر على الشاشة، فتسارع لينا إلى الاتصال بالطبيب كي ينقله إلى المستشفى.
هكذا كان يسير بنا قطار السرد على سكة عصيبة، فيما هذا الكائن النوراني كان يرى والدته تسرع لتحمل ابنته، بعدئذ يراها تتصل بلينا وهي بمعيته في عربة الإسعاف، وقد أسبلت دمعاتها عليه مع أنين متحشرج، فترتفع روحه أكثر فيرى بوسع أكبر، ويبدو أن الزمن لم تعد له قيمة لما يرى من انعتاق عن العالم المادي، وهو يسبح في عالم الوعي الكبير، إلى درجة أنه كان يشاهد أسرته ماذا يصنعون وهو مستلق على السرير.
كان يسمع كل ما يدور بين الأطباء ولينا شبه منهارة. يناقشون إزالة جميع الأجهزة عن صالح ليذهب ويلقى ربه، فتصرخ لينا وتمنعهم ثم تقترب منه ويعلو صوتها: "إن أرادوا إبعادك عني، فثق تمامًا أنني لم أخنك أبدًا، وبقيت وفية لك"، ثم تنهار باكية وترمي برأسها على صدره.
في هذه الأثناء، يفتح صالح عينيه ويحاول رفع يده ليحضن لينا، وهو يقول بصوت غير مفهوم: "أصدقك". ترفع لينا رأسها وهي تحملق في وجهه فترى عينيه ترفان.
هيمنة رزينة
أفلحت البدر في تقديم هذا السرد المتماسك والمهيمن على الحوادث والشخصيات هيمنة رزينة. استمر هذا الإبداع في التماسك حتى شفاء صالح من سباته الطويل، ويبدو بعد ذلك أنه خُط لنا خط آخر ورُسِم لنا شخص مختلف. فبعدما استيقظ صالح وأصبح إنسانًا متنورًا مرتبطًا بالوعي الأعلى، انطفأ على أثر ذلك الإيقاع القصصي بشكل لافت، إذ أحيل على إيقاع توعوي بعض الشيء، وأشبع المنتصف الأخير من الرواية بالتوجيه المباشر الذي لا يسمح بالتأويل فانزلق فيه صالح – الراوي - وبثه لمن حوله.
إذًا، صلحت حياة صالح بعد الإفاقة بشكل واضح وتام، ووجهه أصبح مضاء، واستطاع أن يكمل دراسته العليا، وأغدقت عليه بساتين الحياة رحيقها الفاتن، فيما ازدادت الرواية انطفاءً، بعد اليقظة، بسرد ونقاشات متعلقة بمصطلحات تنموية، نقاشات ليست فيها مشاهد تُشاهد ولا تعني للدراما شيئًا.
هذه الاستعاضة الداعمة اتخذت منحى قصدته الكاتبة لتقديم رسالة تنموية، نصفها لقارئ معيّن مستهدف، والنصف الآخر لخلجات الكاتب، لكن فعليًا ما يهم القارئ هو التجارب الإنسانية وانعكاسها على الوجود وتفاصيل الحياة اليومية التي تسيّر العمل القصصي بتجرد.
* كاتب سعودي
التعليقات