يعتبر المراقبون تركيا laquo;منارة للإصلاح الديمقراطيraquo; قياسًا إلى دول الشرق الأوسط الأخرى. لكن الواقع هو أن شبابها - خاصة الليبراليين - محبطون إزاء شبه الجمود في الحركة نحو المراد سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.


الشباب التركي.. تطلعات واسعة النطاق

دولة إسلامية ديمقراطية على أعتاب أوروبا.. والجسر بين الشرق والغرب.. ربما كان هذا هو الاعتقاد السائد دولياً عن تركيا. لكن قسمًا كبيرًا من الشباب التركي نفسه لا يتفق مع هذا الرأي، ويعتقد أن الحريات السياسية والاجتماعية ما زالت بعيدة المنال.

هناك مؤشرات الى أن الأشياء ليست وردية في بلاد مازالت تقمع الأكراد وحقوق الأقليات، وتصرّ على التجنيد الإجباري.

ورغم أن ضيق الشباب لا يهدد بثورة وشيكة على غرار laquo;ربيع العربraquo;، فإن شكاويهم تردد صدى laquo;مسبباتraquo; الانتفاضات العربية نفسها. وحقًا فإن ما يحبط ذلك القسم من الشباب التركي ذي الميول التقدمية والليبرالية هو أن المؤسسة السياسية الحالية، راعية الثقافة الإسلامية، لا تعكس قيمهم وتطلعاتهم الحقيقية.

حظيرة مغلقة

حاسر اوتشاك (24 عامًا)، التي صوّتت لحزب الشعب الجمهوري في الانتخابات الماضية، تقول لصحيفة laquo;غارديانraquo; البريطانية، إنه من غير الممكن للمرء أن يكون laquo;سياسيًا حرًاraquo; في تركيا. وتضيف إن هذا الوضع laquo;يأتي بسبب أن الخيارات المطروحة ثلاثة لا رابع لها. الأول: حكومة حزب العدالة والتنمية المحافظة بزعامة رجب طيب أردوغان، التي اعتبرها امتدادًا للنظام الديني القديم. والثاني: حزب الحركة الوطنية الإسلامي المتطرف، والثالث: حزب الشعب الجمهوري، الذي يزعم أنه يمثل وسط اليسار، لكنه يزحف بعزم وتصميم نحو اليمين الإسلامي. وهكذا فأنت في حظيرة سياسية مغلقة وإسلامية التوجهraquo;.

الإسلام عامل شقاق

من جهتها، تقول طاهية laquo;شيفraquo; اسمها بيلين (28 عامًا) إن تركيا laquo;ليست بلدا حرًا، لأنك تصوّت تبعًا لموقفك من تعاليم الإسلام ومدى اتباعك لهاraquo;. وتضيف قولها: laquo;السياسة - الدين عندنا عامل تقسيم وشقاق عظيمان. اولئك اللائي يرتدين التنورة القصيرة يكرهن المحجبات، والعكس صحيح. والعلمانيون لا يخفون ضيقهم بالإسلاميين، والعكس صحيح أيضًا. وهكذا صار الدين قضية حساسة لا يمكن فصلها عن الدولة، وتضع الأمة في فريقين متضادين: مؤيد ومعارضraquo;.

العرب ليسوا شأناً تركياً

إذا تناول المرء تركيا عبر نافذة ما يحدث الآن في الشرق الأوسط وانقضاض الأنظمة في سوريا واليمن والبحرين وليبيا على شعوبها، وجد أن الأتراك على غير استعداد للإقرار بأن تاريخ بلادهم يحوي هو أيضاً مناحي عديدة مظلمة. والحديث هنا عن أحداث كبيرة من مجزرة الأرمن الجماعية قبل قرابة 100 سنة، مرورًا بجرائم الدكتاتورية العسكرية في الثمانينات، ووصولاً الى حرمان الأكراد من تقرير مصيرهم.

وفي ما يتعلق بالعالم العربي، فإن الأتراك، الليبراليين على الأقل، يشعرون بأن مشاركة بلادهم في التدخل العسكري في ليبيا نوع من النفاق، وأمر مدفوع بالمصلحة الذاتية، وليس في مصلحة الأسرة الدولية. ولن يجد المرء العديد من الأتراك الراغبين في الحديث عن الأحداث في الدول العربية التي تشهد الآن غليانًا جماهيريًا.

وتقول ليلى بيوم: laquo;لدينا ما يكفينا من مشاكل. كيف نشارك في قوات حلف شمال الأطلسي laquo;الناتوraquo;، بينما لدينا في تركيا نفسها مشكلة القمع السياسي، التي لا تجد اهتمام الإعلام التركي، ويغضّ المجتمع الدولي البصر عنها تمامًاraquo;؟ وكانت تشير بذلك الى الوضع في جنوب شرق بلادها، حيث العنف الذي ظل يستعر لعقود بين قوات الجيش والثوار الأكراد.

إحتجاج على ماذا؟

رجب طيب أردوغان

بفضل أن القانون التركي يتيح المعارضة السياسية، فإن الاحتجاج ليس خطرًا على الأرواح، كما هو الحال في سوريا مثلاً، مع انه لا يرقى الى مرتبة التعامل الغربي معه. ولكن، على أي شيء يحتج التركي؟.

الواقع أن المعارضة الحقيقية laquo;أيديولوجيةraquo; أكثر منها أمرًا يتصل بمعيشة المواطن. فقد أنجز أردوغان الكثير على الجبهة الاقتصادية، وفتح باب النقاش في مسائل كانت محظورة في السابق، مثل القضية الكردية. وعلى أساس أشياء كهذه، فالمتوقع له أن يفوز في انتخابات يونيو/حزيران المقبلة، التي يتوقع أن تكون نزيهة وعادلة. وهذه، بحد ذاتها، محمدة أخرى تضاف الى رصيده.

والواقع أن الاحتجاجات وسط الشباب تنصبّ على أشياء، مثل التجنيد الإجباري، لأنه يتصل بالسؤال: laquo;أين العدو الذي سنخوض حربًا ضدهraquo;؟. يقول داوود توناتشي: laquo;إذا كانت تركيا تسعى إلى أن تصبح دولة متقدمة، فعليها إلغاء التجنيد الإجباري، الذي لا يتماشى والعصر الحديث هذاraquo;.

ثمة أشياء أخرى تعتبر من لوازم حجر الأساس للديمقراطية الاجتماعية. لكن البلاد، من وجهة نظر الشباب، تجاهد في أمر استيعابها. فهناك، على سبيل المثال، حقوق المرأة، والحرية الدينية داخل إطار الحريات العامة الأخرى، وأيضًا، تبعاً للبعض مثل توناتشي، السماح للمثليين بالانخراط في صفوف الجيش.

هويّة تركية وحسب

من الواضح أن الشباب التركي لا يريد أن ينتمي، سواء إلى أوروبا أو العالم العربي أو الولايات المتحدة أو أي جهة أخرى. وهذا لأن الأمة عمومًا تريد أن تظل مستقلة الهويّة، وتستقي فخاراً شرساً بإنجاز الدولة laquo;الحديثةraquo; التي أسسها في 1923مصطفى كمال أتاتورك على أنقاض الامبراطورية العثمانية.

ومن المؤكد أن حكومات العالم ستحرص على روابطها مع تركيا لمختلف الأسباب الاستراتيجية، وأن هذا الأمر وحده كاف لأن يرفع من شأنها الدبلوماسي. ورغم أن الافتراضات السائدة التي تتراوح بين القول إنها laquo;برعم ديمقراطيraquo; وإنها laquo;ديمقراطية ناضجةraquo; غير دقيقة على أقل تقدير، فمن المفيد للقوى العالمية، مثل الولايات المتحدة، أن تروّج لها بسبب أن هذا يتواءم ومصالحها.

مكانة دولية مرموقة

ما لا يُشك فيه هو أن من أبرز الآثار الجانبية للانتفاضات العربية الأخيرة أنها أعادت الى الأذهان أهمية تركيا الاستراتيجية على خشبة المسرح السياسي الدولي، وخاصة بالنسبة إلى أطراف تشمل خصوصًا الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية نفسها.

فتركيا الآن تحتل موقعها المرموق، باعتيارها نقطة الارتكاز في محور علاقات الشرق والغرب الجديد. فحكومتها تؤدي دورًا أساسيًا في ليبيا، وتنتقد بشدة ما يحدث في سوريا. هذا إضافة الى أن الأراضي التركية مفتوحة للقوات الأميركية، وأن أنقرة صارت الحارس الذي يراقب الأفعال الإسرائيلية، وأنها تترقب عضوية الاتحاد الأوروبي، طال الزمن أم قصر.

رسالة شبابية مختلفة

مع كل هذا laquo;الضجيجraquo; الدولي، فإن الرسالة التي يبعث بها الشباب التركي إلى مؤسسته الحاكمة، هي أن السياسة الداخلية يجب أن تعلو على الخارجية، لأنها همّ الشعب اليومي. ومعظم هؤلاء يؤمنون بأن انشغال حكومتهم بسعيها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن وتسهيل مهام الناتو للتدخل في صراعات العالم تأتي على حساب أولويات رجل الشارع وهمومه الحقيقية.

يشعر اولئك الشباب أيضًا بأن الثناء الخارجي الذي يكال على بلادهم من أنها laquo;نموذج للإصلاح الديمقراطيraquo; لا يستند الى معطيات حقيقية تؤهلها لنيله. ليس هذا وحسب، بل إن العديد منهم يقول إن من شأنه أن يفرز نتائج عكسية غير حميدة.

وأخيرًا، فهم يأملون في أن يولي أردوغان مزيدًا من الاهتمام لمطالب الشعب التركي وحقوقه الاجتماعية كجزء من عملية مستمرة نحو مجتمع يتمتع بالحرية والتناغم وبدون أي قيود أيديولوجية.