الوليمة في العراق سلوك اجتماعي يتمسك مواطنوه بنهجه، كتعبير عن خاصيَّة يحرص العراقي على اكتسابها، وهي الكرم، إضافة إلى أن الوليمة أو (العزيمة) باللهجة العراقية الدارجة، مظهر للوجاهة الاجتماعية، يشترك فيها ابن القرية والبادية، تمامًا مثلما يسعى ابن المدينة إلى التشرف بإقامتها وتمويلها.
ولائم العراق السياسية |
وسيم باسم من بغداد: تحولت الوليمة منذ العام 2003 إلى ظاهرة دعائية لا تخلو من أغراض سياسية، فيما يمكن تسميته بـquot;الولائم السياسيةquot; التي يموّلها المسؤولون والسياسيون لحشد الأتباع وكسب الأصوات في الانتخابات.
يتحدث الشيخ علي السلطاني، وهو من عشائر quot;البو سلطانquot; المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط (جنوب وسط العراق في منطقة حوض نهر الفرات تضم محافظات النجف، كربلاء، الديوانية وبابل والمثنى)، عن الوليمة كجزء من سلوك اجتماعي، يقيس مكانة العشيرة في المجتمع، ذلك أن ضخامة الوليمة تؤشر إلى قوة العشيرة وتشعب علاقاتها.
عدا مناسبات الفرح والأحزان التي تشهد ولائم تكتسب حيويتها من نوع المناسبة، فإن هناك ولائم وعزائم طارئة تستند في أسباب تنظيمها الى معالجة مشاكل اجتماعية وأحداث طارئة، مثل القتل والدية والزواج والترضية والضيافة.
ولائم السياسين
لا يمكن للشيخ علي إحصاء الولائم التي أقامها في العام الماضي، التي كلفت العشيرة مبالغ طائلة. وبين مئات الولائم التي أقامها، يتحدث الشيخ عن ولائم يلجأ إليها السياسيون لغرض التواصل مع الناس. لا ينتقد الشيخ علي هذه الولائم، لأن نتائجها إيجابية في التعرف إلى المسؤولين عن قرب، ومناقشة برامجهم السياسية.
على أن البعض ينظر إلى الوليمة في العراق على أنها مظهر للبذخ لا داع له، ويعتبره مظهرًا من مظاهر النفاق الاجتماعي. ويحرص العراقيون أشد الحرص على توفير مقدار كاف من الوجبات للمدعوين، والتي تتألف في الغالب من الخروف المحشي (القوزي)، وماء التشريب (الهبيط)، والرز. وفي الغالب، فإن هناك طباخين متخصصين في الولائم الكبيرة، هم من يتولى إعداد الأكل.
مباحثات الولائم
يقول المدرس سمير الجبوري، الذي يشارك مضطرًا في معظم الولائم التي تقيمها عشيرته، إن اعتبارات عشائرية وواجبات اجتماعية توجب عليه المشاركة. ويضيف: إن المثل العراقي quot;إملأ البطون تعمى العيونquot;، يكشف عن حقيقة تغاضي نخب المجتمع عن الكثير من مسببات النزاعات العشائرية، فعلى سبيل المثال يمكن في وليمة ما تصفية قضايا القتل، بالدية او بغيرها، مقصية دور القانون، وغالبًا ما تحلّ هذه المشاكل على حساب الضحية، متجاوزة القانون، حيث يتفوق العرف العشائري على المؤسساتية في الدولة.
لكن الباحث الاجتماعي أحمد الخفاجي يناقض طرح الجبوري بالقول إن هناك قاعدة ذهبية تتحكم في مجلس الولائم وما تسفر عنه من نتائج هي ايجابية في الغالب. والقاعدة هي في جوهرها الخجل والحياء الذي يصاحب الولائم، وبمعنى آخر رد الجميل للكرم، كما يعبّر عنه المثل quot;املأ الفم تستحي العينquot;.
دعاية انتخابية
بعد العام 2003 نفذت أجندة السياسة العشائر من بوابة الولائم، لتلبس الوليمة رداء الدعاية الانتخابية. يقول كريم الحسيني إن الوليمة السياسية انتقلت من المضائف والدواوين الى مطاعم الدرجة الأولى بغية كسب الأصوات. وللمرة الأولى يشهد العراقيون ما لم يعايشونه من قبل، وهو توزيع المبالغ المالية والأعطيات والهدايا بعدأن تشبع البطون، في مبادرات لسياسيين لا تخلو من أغراض سياسية.
لكن الوليمة، إضافة إلى كونها ظاهرة إيجابية، لا تخلو من محاولات استغلالها لتلبية أغراض حزبية أو شخصية، كما لا تخلو من مواقف الطرافة، لاسيما وأن المشتركين فيها هم من أطياف المجتمع، ومن طبقاته المختلفة. وتقترن quot;العزيمةquot; بالمضيف الذي يكنّ له الناس في القرية المدينة مشاعر خاصة، لأنه يمثل الملتقى بين أبناء العمومة الواحدة وبين ابناء العشائر الأخرى، ولا يخلو مضيف الشيخ (زعيم القبيلة) أبًدا من تقديم القهوة العربية الممزوجة برائحة (الهيل).
يتذكر الحسيني وليمة كبيرة موّلها سياسي عراقي هو الآن عضو في مجلس النواب، وحضرتها عشائر من الفرات الأوسط، وزع السياسي في ختامها، مبلغ خمسين الف دينار عراقي على كل فرد.
الوحدة والتماسك
في اشد الأزمات الاقتصادية وأوقات الضيق، لم يتخل العراقيون عن دعوات الولائم، بل انها كانت في تلك الأوقات تتعزز، لتوثيق الصلات، وتأكيد الشعور بالوحدة والتماسك، وتنمية الشعور المشترك المعبَّر عنه بالعمل الجمعي في أوقات الشدة والحاجة، وكنتيجة لذلك تختلط الموائد الجماعية بالأهازيج الشعبية التي هي من أبرز الفعاليات التي تقام على هامش الولائم.
فضوليو الولائم
العراقيون من الشعوب التي تتندر على الوليمة وإثنائها، كظاهرة وعادة، لأنها انعكاس لأفراد يمثلون أمزجة مختلفة، وينحدرون من طبقات تتباين في مكانتها وإمكانياتها، فالفقير الى جانب الغني، والغريب إلى جانب ابن العشيرة او المنطقة، الكل يشرع في مد يده الى (صحن الأكل) لحظة الشروع، لهذا لا تخلو العزائم من غير المدعوين إلى العزيمة أو من يسميهم البعض (الدخلاء)، بل يطلق البعض عليهم لقب quot;اللكامةquot;، الذين يتهافتون على العزيمة، من دون دعوة موجهة اليهم، لغرض إشباع البطن فحسب.
وغالبًا ما ينحدر هؤلاء من الطبقة الفقيرة او من الغرباء الذين يقصدون من أماكن بعيدة بسبب تملكهم شراهة لا تصدق للأكل، وهم ما يطلق عليهم العراقيون لقبا آخر هو (الأكالة).
ويتحدث ماجد الموسوي عن مجاميع من هؤلاء quot;اللكامةquot;، يغزون العزائم الكبيرة من دون دعوة موجهة إليهم، ويطلقون عليم اسم quot;الكتائبquot;، وغالبًا ما يحذر منهم أصحاب الولائم، ويضعون الأعين عند مداخل الوليمة لتجنب دخولهم في أول صفوف المدعوين. لكن أصحاب الولائم لا يرون ان من اللائق طردهم، وغالبًا ما يطلبون منهم الصبر قليلاً إلى حين انتهاء المدعوين والنخب من الأكل.
التعليقات