تطوي ليبيا صفحة معمر القذافي بكثير من الدماء والتضحيات والألم، لكن بكثير من التفاؤل بالمستقبل. ليبيا التي تخلصت من حكم (عقيدها) تجابه اليوم مشاكل قد يعجز أهل البلد أنفسهم عن حصرها، ولعلّ أبرز التحديات فرض الأمن وإعادة الإعمار ومحاكمة القذافي وتجنب الانتقام وبناء دولة القانون والمؤسسات.


المزيد على إيلاف

القذافي ولّى وليبيا حرّة

طرابلس: حيثما ولى الليبيون وجوههم، إلا واعترضتهم التحديات التي تجابه شعبا تخلّص للتوّ من حكم ديكتاتور جثم على البلاد والعباد لأكثر من 4 عقود.

وفي الوقت الذي يخوض فيه الثوار آخر معاركهم ضدّ فلول كتائب القذافي في بني وليد وسرت وبعض المناطق التي ترفض الخضوع للأمر الواقع، يفكّر الليبيون ساسة ومواطنين في مصير العشرات من الملفات التي تنتظر الحلّ.

من أين نبدأ؟ هل بتحدي فرض الأمن وسحب السلاح ممّن يرفعه؟ أم من احتدام الخلاف بين الليبراليين والإسلاميين وما قد يخلفه من مخاطر على استقرار البلد؟ أم من معضلة إعادة إعمار البلد الذي خربته حرب ضروس؟

ليس هذا فحسب، فقضايا الانتقام ومحاكمة القذافي وأركان حكمه، ملف لا يقل أهمية لدى كثيرين من بقية الملفات، في حين يلوح آخرون بملف quot;أحمرquot; يتضمن تحذيرات تحول ليبيا إلى بلد مفرّخ للإرهاب.

فرض الأمن وجمع السلاح

يواجه المجلس الانتقالي الليبي تحديات مختلفة لفرض الأمن وبسط نفوذه على كافة أنحاء البلد المترامي الأطراف، وإعادة الثقة للمواطن العاديّ، فالسيطرة على ما تبقى من مناطق خاضعة لفلول القذافي، وجمع السلاح المنتشر في كل مكان، وبسط السيطرة على الحدود والمنافذ أمر لا يحتمل التأجيل برأي كثيرين.

ورغم أنّ المجلس الانتقالي الذي يترأسه مصطفى عبد الجليل قلل من أهمية موضوع جمع السلاح، فإنّ الملف يستحقّ الوقوف والتأمل، إذ أنّ انتشار السلاح قد يعيق عدة مهام لفرض هيبة الدولة والانطلاق في عملية الإعمار والتنمية.

رئيس اللجنة السياسية بالمجلس الانتقالي فتحي البعجة قال في تصريح صحافي سابق انه لا خطة لدى المجلس في الوقت الحالي لجمع السلاح الخفيف من المدن في ليبي ، وأكد أنّ المجلس لم يطرح خطة لجمع السلاح من المدن مشيرا إلى أن quot;هذه المسألة ستأتي فيما بعد، وهي لا تهمنا ولا نخاف منها quot;.

يقول المحلل السياسي الليبي طارق القزيري لـ(إيلاف) في هذا الصدد: من المرجح بالنسبة لي ألا يكون موضوع جمع السلاح من مشمولات المجلس الانتقالي، فهو من المفترض أن ينتهي عمله بعد ثمانية أشهر من quot;إعلان التحريرquot;، وهذه الفترة لن يتوفر فيها عاملان مهمان، وهما إقرار شرعية حمل السلاح الشخصي وتقنينه، وكذلك سيولة مادية تسمح بالتعويض في حالة رغبة سحب السلاح وأغراء الناس على بيع سلاحهم كوسيلة وحيدة لنزعه، وبالتالي فهي مهمة مؤجلة للحكومة القادمة ما بعد الفترة الانتقالية، وهناك يمكن الحكم على مستوى تعقيد العملية وفقا للظروف آنذاكquot;.

محاكمة القذافي

محاكمة عادلة للعقيد الهارب قد تكون مقدمة لمصالحة من نوع ما بين الليبيين

محاكمة العقيد الهارب تحمل أكثر من بعد في ليبيا، فهي بالنسبة لكثيرين تتويج لمسار تحرري ثوريّ أو ما يشبه (مسك ختام الثورة) تنتهي بجزاء يستحقه المستبدّ مع توفير شروط المحاكمة العادلة، في حين ينظر إليها البعض كـquot;مخلصquot; للبلاد من عمليات الانتقام التي انتشرت مؤخرا بحسب عدد من التقارير الإعلامية.

إذ من المرجح أن يوقف مثول القذافي أمام المحاكم الليبية او الدولية quot;نزيف الانتقامquot; ويدفع نحو مصالحة من نوع ما.

الأفاق القانونية لمحاكمة معمر القذافي تبدو ضبابية للغاية، خصوصا فيما يتعلق بالاختصاص القضائي الذي يمكّن من محاكمته.

قادة المجلس الوطني الانتقالي يصرون على أنّ من واجبات الحكومة المقبلة محاكمة القذافي عن الجرائم التي ارتكبتها ضد الشعب الليبي، وفي الوقت نفسه فان القذافي واحد أبنائه ورئيس مخابراته العسكرية السابق مطلوبون لدى المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي في جرائم مفترضة ضد الإنسانية.

ويقول بعض أعضاء في الكونجرس الاميركيّ إنهم يريدون محاكمة القذافي في الولايات المتحدة عن تهم تتعلق بتفجير الرحلة 103 للطائرة التابعة لشركة (بان أميركان) والتي قتل فيه 270 شخصا والهجوم عام 1986 على مرقص في برلين لقي فيه جنديان أمريكيان حتفهما.

ومن المرجّح جدا أن تظهر أيضا مزاعم بريطانية وفرنسية وألمانية جديدة ضد القذافي في حين قد تقفز تشاد المجاورة وأعداء الماضي الآخرون إلى حلبة المطالبين بالقصاص من القذافي.

ويرى محللون انه من المحتمل أنquot; تحدد السياسةquot; وليس القانون الدولي مكان محاكمة القذافي.

الإعلاميّ والمحلل السياسي طارق القزيري

quot;تسليمه للمحكمة الدولية أفضل من متابعته داخلياquot;، هذا ما يخلص إليه الإعلاميّ والمحلل السياسي طارق القزيري، ويضيف لـ(إيلاف): quot;هناك مسؤولية أخلاقية لليبيين، بدعم المحكمة التي قدمت لقضيتهم والثورة بعدا جديدا ومهما، وتسليم القذافي سيعزز دور هذه المحكمة عالميا بالتأكيد.

ثم إن النظام القضائي الليبي سيعاني من عدم توازن لفترة ما، ما يتيح الطعن أو التنقيص من قيمة العدالة في إحكامه بخصوص طاغية من نوعية القذافي، وقصة صدام حسين مثال واضح بالصدد، لكن الأمر سيخضع لأمور كثيرة منها اعتقال القذافي فعلا، ثم موقع الحكومة آنذاك سياسيا وقدرتها على الحسم في مثل هذه القضايا ذات العمق في الرأي العامquot;.

هل تتحوّل ليبيا إلى بؤرة للإرهاب؟

لا ينكر المتابعون أن ليبيا شهدت quot;أحداثا مقلقةquot; تجعلهم يحذرون من إمكانية بروز خطر الإرهاب كعامل مُجهض لمسار الثورة التي أطاحت بالعقيد.

تم نهب مستودعات كبيرة للسلاح، والجهة التي حصلت على ذلك السلاح لازالت غير معروفة، كما تم ملاحظة توجه قوافل ذات طابع عسكري من الأراضي الليبية باتجاه الدول المجاورة مثل النيجر والجزائر وغيرهما.

فالاحتمالات إذن بوقوع الأسلحة المسروقة في أيدي الفرع المحلي لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي تبدو قائمة ومبررة.

رغم التكتم... التناقضات المجتمعية في ليبيا لم تعد خافية عن المتابع

وهذا ما يؤكده طارق القزيري بالقول: quot;الخوف من تحول ليبيا إلى مأوى إرهابي مبرر جدا، ولكن المقلق هو توقع بروز هؤلاء من صفوف من يدعمون المجلس الانتقالي، اعتقد إن هذا يهمل التطورات على الأرض أولا، ثم إنه يتجاهل إمكانات القذافي ومجال مناورته في الظروف الحالية.

هزيمة قوات القذافي، وعلاقاته السابقة بدول الصحراء، كحركات انفصال ومتمردين، تمهد له الطريق لاستثمار المنطقة والتحالف مع القاعدة وغيرها، خاصة انه الآن يستثمر في مناطق معينة لصنع شرخ اجتماعي بين المجلس وباقي الجيوب ذات الطبيعة الاجتماعية المميزة، ليمكنه اللعب لفترة طويلة على التناقضات بين المجلس والمناطق التي تحررت بالقوة في هذه الآونة، وهو أمر يعود لطريقة معالجة المجلس وتعامله مع وضعية مدن بني وليد وسرت وسبها بعد تحريرها، وقدرته على دمجها في سياق تنموي ومساواتي واضح يشعر به سكان تلك المناطق بوضوح وبسرعة أيضا. لمنع الطريق أمام تفعيل تحالفات القذافي الإقليمية من لعب دورها في التناقضات الممكنة داخليا.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ التناقضات الاجتماعية برزت في ليبيا إلى درجة مقلقة، ويبدي العديد من المحللين والخبراء بالشأن الداخلي أن التناحر والثأر القبلي والمناطقي سيكونان أخطر التحديات التي ستواجه حكام ليبيا الجدد.

وتقول تقارير إعلامية إنّ عددا هاما من سكان العاصمة طرابلس باتوا يتحدثون اليوم عن احتلال quot;مصراتيquot; وquot;امازيغيquot; وquot;زنتانيquot; لمدينتهم، مما جعل المجلس الوطني الانتقالي يطلب من الثوار القادمين من خارج طرابلس العودة إلى مناطقهم، غير أن دعوته هذه لم تجد صدى لدى ثوار مصراتة والجبل الغربي.

وتشكو الخارطة الاجتماعية لليبيا من خلل واضح في العلاقات بين القبائل والمناطق، وما يزيد من تعقد الأمر ان القبائل العربية البدوية ترفض الخضوع للأمازيغ من أبناء الجبل الغربي ولذوي الجذور الشركسية من أهالي مصراتة.

ويتحدث البعض عن وجود خلافات ثقافية راسخة بين إقليمي برقة وطرابلس. أما سكان إقليم فزان الجنوبي فلا يخفون امتعاضهم من نظرة سكان الشمال وخاصة في المنطقة الشرقية.

ليبراليون ... إسلاميون

كما كان متوقعا، الصراع quot;التاريخيquot; بين الأصوليين والليبراليين الذي ظل خافيا خلال الأشهر الأولى للثورة على نظام العقيد الليبي معمر القذافي، طفا إلى السطح مؤخرا.

ونشب الصراع بين قيادات الثوار في ليبيا بما يعكس التنافس على السلطة وأيضا التحدي الجديد الذي ستواجهه أية حكومة مؤقتة جديدة في مسعاها لتوحيد المشهد السياسي المشتت.

الأصوليون في ليبيا: إننا قادمون!

وهاجم الشيخ علي الصلابي الأب الروحي للإسلاميين في ليبيا، وعضو الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين بزعامة يوسف القرضاوي أعضاء المجلس التنفيذي، واتهم بعضهم بالسعي إلى سرقة أموال الشعب الليبي، وطالب الصلابي رئيس المجلس محمود جبريل بالاستقالة وquot;ترك الليبيين والقوى الوطنية الحقيقية ليبنوا مستقبل بلادهمquot;.

كما هاجم رموز الليبرالية العلمانية مثل محمود شمام المكلف بالإعلام وعلي الترهوني المكلف بملف النفط والمال وعبد الرحمن شلقم مستشار رئيس المجلس، واتهمهم باحتكار القرار المتعلق بالقطاعات المالية والصحية والخدماتية الأخرى.

ولعل المظاهرات غير المألوفة في السياق الليبي والتي شارك فيها بعض مئات من الليبراليين في مدينة طرابلس ضد تصريحات الشيخ الصلابي، تعكس حجم الانقسام الكبير بين التيارين واحتمالات تحوله إلى صدامات تهدد استقرار البلد في المرحلة الانتقالية.

يقلل المحلّل السياسي طارق القزيري من أهمية هذا الصراع الإيديولوجي ويعطيه منحى سياسيا بالقول: quot; ما يجب ملاحظته بخصوص الصراع بين الإسلاميين في ليبيا انه استنساخ سطحي للخلاف المعروف في دول أخرى، فهو صراع تقاسم سلطة أكثر منه أجندات مختلفة، فلا هؤلاء ولا هؤلاء، ينتمون لتيارات عميقة تملك إرثا تنظيريا محليا، بل في الجانب الليبرالي هم ndash; غالبا - نخبة أكاديمية تكنوقراط، ليسوا من ذوي التنظير الفكري ولا التأطير السياسي سابقا.

والإسلاميون أيضا لا يملكون قدرات فكرية مميزة، وهم إما مقاتلون سابقون، أو شيوخ فقه عام وليسوا ذوي حمولات فكرية مثلما نعرف عن قادة ورموز الإسلاميين في تونس ومصر والمغرب مثلا ... فأنت لا تجد مكتبة إسلامية معاصرة في ليبيا على سبيل المثال.، ولذا اعتقد أن التوافق بينهما ممكن جدا، لأنه توافق سياسي، ودرجة الاستقطاب اقل بكثير من غيره، الخلاف الإيديولوجي في ليبيا ظاهرة سطحية، وتناقض صوتي خطابي، سيذوب جليده بالتوصل لتسوية سياسية بين قيادات هذا الخلاف.. وهو أمر ممكن لأنهم براغماتيين جدا كما يبدوquot;.

النفط ...والطريق الطويل نحو الإعمار

يبدو الاقتصاد الليبيّ هشا للغاية مع اعتماده بصفة شبه كلية على النفط وإيراداته، لكن وضع ليبيا ما بعد القذافي اقتصاديا، قد يكون أفضل حالا من تونس ومصر وغيرها من البلدان.

تمتلك ليبيا أكبر الاحتياطيات من البترول الخفيف في القارة الأفريقيةrlm;، وتستحوذ علي أصول خارجية تتجاوز قيمتها rlm;170rlm; مليار دولارrlm;، أي ما يمثل110% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، استنادا إلى تقارير، ولا تبدو ليبيا مثقلة بالديون، ثم إنّ كثافتها السكانية المحدودة- ستة ملايين نسمة- تجعل عملية توزيع الثروة بين أفراد المجتمع غير معقدة.

كما أنّ حكومات العالم خصوصا الغربيّ تسعي لكسب ودّ حكام البلد الجدد، فالفرص الاستثمارية البكر متوفرة وهو ما يجعل البلد في وضع قوي يمكنه من اختيار الأفضل بين العروض المتنافسة التي ستتوالى قريبا.

مشاريع إعادة الإعمار في ليبيا ما بعد القذافي تسيل لعاب المهتمّين

ومن التحديات التي تجابه قطاع النفط في ليبيا، إعادة الصادرات البترولية إلى معدلاتها قبل الثورة، وبناء هياكل وبنية أساسية تستجيب لاحتياجات المواطن في مواقع انتشاره المترامي جغرافيا وليس للنخبة الحاكمة كما كان سائدا في quot;العهد القذافيquot; وسرعة إعمار المناطق المتضررة في مصراتة والجبل الغربي، وغيرها من المناطق المُفقّرة، والنظر في بدائل أخرى لتوظيف الفوائض البترولية بدلا من استثمارها في صناديق تحوط أهدرت الأموال في رسوم باهظة وخسائر فادحة.

علاوة على البحث عن صيغ جديدة لإعادة توزيع الدخل بما يحقق العدالة والإنصاف للمواطن الليبي بغض النظر عن هويته القبلية أو معتقداته السياسية.

أما بخصوص الأموال الليبية في الخارج، فإن عودتها تتطلب وقتا وإجراءات قانونية معقدة للغاية، وإلى حين تحقّق ذلك، سيحتاج الحكام الانتقاليون إلى أموال كثيرة لإعادة خدمات المياه والكهرباء والاتصالات وإعادة بناء المنازل المهدمة والطرق والمرافق الأساسية والمستشفيات والمدارس والمؤسسات الخدمية، وهو أمر سيستغرق وقتا طويلا وبالتالي قد تضطر ليبيا إلى اللجوء إلى الاستدانة من مؤسسات دولية وإقليمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الإفريقي وهو ما يجب أن يسبقه اعتراف كل الدول الأعضاء في هذه المنظمات بالنظام الجديد، الأمر الذي لا يبدو متاحا في الوقت الحالي مع تحفظ عدد من الدول على الاعتراف بالحكام الجدد.