مع اقتراب الثورة السورية من الدخول في عامها الثاني، وتعقد الوضع أكثر فأكثر وسط عدم قدرة أي طرف من أطراف النزاع على حسم المعركة لمصلحته، تبقى الغالبية الصامتة على حيادها. وفي صمت هذه الفئة قوة لم ترجّح كفة الميزان لأي من الطرفين. تأتي قوة هذه الشريحة من انتمائها إلى الكتل العاملة المحرّكة للاقتصاد من جهة، والضامنة لاستمرارية عمل الأجهزة الأمنية من جهة أخرى.. فبيدهم مفاتيح استمرارية الحياة اليومية.
عبد الاله مجيد: ينهمك الموظف في إحدى دوائر الرسمية في دمشق في عمله متجنّبًا الدخول في نقاش حول quot;الوضعquot; كما يسمّي السوريون أزمتهم الطاحنة. لكن تجنّب الحديث عن الأمر لا يعني بالضرورة أنه لا يفكر بالأمر، فهو منذ مدة يتصارع مع فكرة انتقاله إلى صفوف المعارضة، مع التشبث بوظيفته، واثقًا من أنه quot;ليس هناك مقاتلون يستحقون الانضمام إليهمquot;، على حد تعبيره.
يقول الموظف، وهو ضابط سابق في الجيش، إنه واحد من أصدقاء وزملاء عدة له في العمل يشعرون بأنهم واقعون في quot;مصيدةquot;. فهم ناقمون على رئيس النظام بشار الأسد، وساخطون على العنف، الذي يجتاح سوريا، لكنهم خائفون بقدر واحد من النظام والمعارضة المستعدَين، كما يقول الموظف، للتضحية بأرواح quot;الأبرياءquot;.
من جهتها تقول سمر حداد، التي تدير دار نشر، لصحيفة نيويورك تايمز، quot;أنا وجيراني كنا أول من نزلوا إلى الشارع، وهتفوا quot;نريد وطنًا، وطنًا حقيقيًا، وليس ضيعةquot;، ولكن هذه الثورة المسلحة أرفضها بقدر ما أرفض النظامquot;.
تضيف سمر، وهي سيدة في أواخر الأربعينات، وتقضي معظم وقتها الآن خارج دمشق، أنها وأمثالها من المثقفين والمهنيين يعتبرون المحتجين السوريين العزل أبطالاً، ولكنهم يعتقدون أن المعارضة المسلحة تصنع زعماء حرب وحلقات من الأعمال الثأرية التي يصعب استئصالها.
تكمن قوة هذه الفئة بكونها تمسك بمفاتيح استمرارية الأنشطة اليومية الاعتيادية، فهم ينتمون إلى شريحة أصحاب الأعمال، الذين يحركون عجلة الاقتصاد، والمصرفيين، الذين يموّلون الاقتصاد وكوادر الأجهزة الأمنية وشريحة الموظفين، الذين يضمنون استمرارية الأنشطة اليومية الاعتيادية ذات الأهمية الحاسمة لدوام الدولة السلطوية.
ويرى مراقبون أن موقف هذه الفئة وبقاءها على الحياد من الأسباب التي أدت إلى بقاء الأسد في السلطة بعد عامين من اندلاع الانتفاضة ضد نظامه.
وهم إذا هجروا النظام أو انتقلوا أفواجًا إلى صفوف المعارضة يمكن أن يغيروا ميزان القوى بصورة جذرية، لكن انعدام اليقين بين شرائح هذه الكتلة الواسعة بشأن الموقف الذي يتعيّن عليهم اتخاذه يسهم في الطريق المسدود الذي دخله النزاع.
وكانت الانتفاضة المصرية، وقبلها التونسية، التي ألهمت الانتفاضة السورية، التي بدأت سلمية، بلغت النقطة الحرجة في غضون أسابيع، وبتضحيات أقل بكثير.
وطغت في الحالتين الرغبة العارمة في التغيير على الخوف من المجهول، فتكللت هذه الأماني بسقوط النظام الاستبدادي أو بالأحرى الطغمة التي تقوده. ولكن الوضع في سوريا يتسم بتبادل الضربات بين طرفي النزاع مع جلوس كثيرين على السياج يتفرجون، فيما تشعر نواة صلبة من الموالين أنها ملزمة بالاستمرار مع النظام حتى في وقت تتزايد شكوكهم في بقائه.
ومن أسباب ذلك أن حملة النظام الوحشية جعلت الاحتجاج مخاطرة أكبر منها في الانتفاضات الأخرى. لكن هناك سببًا آخر أيضًا هو الشكوك التي تساور النخبة المدنية وفئات أخرى بشأن اتجاه الثورة ومستقبل سوريا تحت سيطرة المعارضة.
ينخرط أيضًا في صفوف الواقفين موقف المتفرج موظفون وعناصر أجهزة أمنية ومثقفون وسوريون أثرياء. ويقول البعض، بمن فيهم علويون، إنهم يخافون من حكم الإسلاميين أو الدعوات إلى الإنتقام التي تطلقها بعض الفصائل المحسوبة على الانتفاضة.
بعض هؤلاء عسكريون سابقون يقولون إنهم انشقوا، لكن أملهم خاب بمقاتلي الفصائل المعارضة غير المنضبطين أو المهووسين بهاجس الدين. وقال الشاب نور لصحيفة نيويورك تايمز إنه نفض يده من الثورة عندما حاول الانضمام إلى لواء التوحيد الإسلامي بعد انشقاقه عن الجيش، ولكنه رُفض بسبب ارتدائه سروال جينز ضيقًا.
آخرون، مثل الموظف السني، الذي ما زال يصارع فكرة الانضمام إلى المعارضة، يخشون ببساطة نشوء فراغ بعد سقوط الأسد إضافة إلى الخوف على مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم وأمن بلدهم.
ويبدو أن أعدادًا أقل فأقل من السوريين يعتقدون الآن أن السلطة قادرة على إعادة النظام. فإن تفكك البلد يجري على نحو لا تُخطئه العين، وأسفر هذا عن انطلاق سجالات لا تُحصى في المجالس الخاصة حول سبل البقاء وسط قلق متزايد من أن يؤدي القتال بلا نهاية إلى تمزق الدولة السورية وانهيارها ما لم يتوصل الفرقاء إلى تسوية سياسية أو يحدث تدخل خارجي.
فالحياة بالنسبة إلى السوريين الذين لا يؤيّدون الأسد ولا يدعمون المعارضة أصبحت انتظارًا يشوبه الخوف. في دمشق لا يُنجز عمل يُذكر في الدوائر الرسمية التي تهتز بالانفجارات وتفرغ في ساعة الغسق.
ويقول موظفون إن الدولة ما زالت تدفع رواتبهم، ولكن قلة من الموظفين يداومون في مكاتبهم. تقول سمر حداد إن العاملين في دار النشر التي تديرها ما زالوا مواظبين على الدوام، في ما أصبح عملاً من أعمال التحدي، هدفه إيصال رسالة، مفادها أن الحياة مستمرة. وتضيف سمر حداد أنها وأصدقاءها ممن يشاركونها الرأي يحاولون بهدوء بناء مجتمع مدني. ولكنها اعترفت قائلة quot;نشعر بالكآبة واللاجدوى والعجز. فنحن لسنا صانعي القرارquot;.
يتمنى كثير من السوريين التوصل إلى تسوية سياسية، ربما بتشكيل حكومة انتقالية تضم معتدلين من أركان النظام، ولكنهم يعتقدون أن القرارات يصنعها مسلحون من الطرفين يرفضون المهادنة.
وقال أبو طوني، وهو صاحب متجر في وسط دمشق، إنه يؤيد التوصل إلى تسوية توافقية معترفًا بأن هذا ليس اسمه الحقيقي quot;إن الطرفين يفكران بطريقة واحدةquot;. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن أبو طوني قوله quot;هذه ليست حياة، أن نمضي نصف اليوم بلا كهرباء، وبلا وقود تدفئة، وحتى بلا خبز فقط، لأن الطرفين يرفضان التنازل عن بعض مطالبهماquot;.
في المقابل يشعر بعض العلويين بالإحباط من الأسد متوصلين إلى قناعة بأنه هدد مستقبلهم في سوريا، في حين يعتقد كثير من العلويين أن لا مكان لهم في المعارضة. ولهذا السبب، من بين أسباب أخرى، لم تحدث انشقاقات جماعية بين كبار الضباط العلويين.
لكن هناك حتى عسكريين سنة يشعرون، رغم تفكيرهم في الانشقاق، بأنهم لا يستطيعون أن يقدموا الكثير، كما قال قائد ميداني من المعارضة في محافظة إدلب. وأكد هذا القائد الميداني أن كثيرًا من العسكريين اتصلوا برفاق لهم انشقوا في وقت سابق، لكن هؤلاء أخبروهم كيف ظلوا شهورًا بلا راتب، وتحدثوا لهم عن المهانات التي يلقاها ضباط سابقون من مقاتلين صغار يتعاملون معهم باستعلاء.
ومن هؤلاء المنشقين، الذين خابت آمالهم، الشاب نور، الذي قال إنه خدم في الفرقة الرابعة المرهوبة بقيادة ماهر شقيق بشار الأسد، ولكنه انشق بعدما اعتدى جلاوزة الأمن على خطيبته، ثم قتلوها، وبعدما توسل إليه العديد من الأصدقاء لكي ينضم إلى صفوف المعارضة. ولكن نور خُذل، خذله أولاً مقاتلون يعاقرون الخمر ويتعاطون والمخدرات، عرضوا عليه مالاً مقابل أفعال جنسية، ثم خذله لواء التوحيد، الذي كان مقاتلوه يستفزونه، قائلين quot;تريد أن تنضم إلينا وأنت ترتدي سروالاً ضيقا؟quot;، وقال نور لصحيفة نيويورك تايمز إنه قرر البقاء في تركيا والابتعاد عن طرفي النزاع.
موظف دمشق، الذي ظل يتحدث عن الانتقال إلى صفوف المعارضة طيلة أشهر، أولاً مع معارضين من بلدته، ثم مع أحد المراسلين قال إنه متردد لأن لديه أسئلة عديدة عن المعارضة ومشاريعها. quot;هل هم واعون بما فيه الكفاية؟، هل يستطيعون ممارسة ضبط النفس. هل يستطيع مقاتلو المعارضة أن يقيموا منطقة آمنة؟... أسئلة عديدة بحاجة إلى إجاباتquot;، على حد تعبيره.
وأضاف الموظف أن النظام توقف منذ مدة طويلة عن إجباره على المشاركة في تظاهرات مؤيدة للأسد، ولكن عناصر المعارضة يسمّونه خائنًا، لأنه يطرح أسئلة. وتساءل الموظف quot;لماذا أنضم إلى جماعة، حيث أكون مُكرهًا على المجاملة؟quot;.
التعليقات