صراع أنقرة مع الأكراد يمكن أن يشهد حلا في يوم ما، لكن على ما يبدو مفاتيح الحلول لا زالت داخل أسوار السجن وبالتحديد في يد عدو تركيا الأول عبدالله أوجلان.

في 3 كانون الثاني/يناير استقل السياسيان الكرديان أيلا اكات عطا واحمد ترك عبَّارة متوجهة الى جزيرة امرالي في بحر مرمرة على بعد 64 كلم جنوب اسطنبول. وكان بانتظارهما داخل سجن الجزيرة ذي الحراسة المشددة عدو الحكومة التركية رقم 1 ، زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان.
وأنعش اللقاء غير المسبوق الآمال بأن حل نزاع تركيا الدموي المديد مع حزب العمال الكردستاني عن طريق المفاوضات بات في متناول اليد. كما تشير بوادر أخرى الى جهود وساطة منسقة. فان زيارة النائبين الكرديين في البرلمان التركي عطا وترك سبقتها اتصالات بين اوجلان ورئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان. وفي 8 كانون الثاني/يناير نشرت صحيفة راديكال التركية نبأ قالت فيه ان اوجلان والمسؤولين الاتراك اتفقوا على خارطة طريق من أهم محطاتها نزع سلاح حزب العمال الكردستاني تدريجيا مقابل الموافقة على التعليم باللغة الكردية وتوسيع سلطات الادارة المحلية في المناطق ذات الأغلبية الكردية واعتماد تعريف جديد محايد عرقيا للمواطنة. وبحسب صحيفة يني شفق فان اوجلان اقترح ايضا دعوة فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا الى تعليق اتصالاته مع نظام بشار الأسد في دمشق والانضمام الى صفوف المعارضة السورية.
ويرى مراقبون ان من حق الاتراك والكرد أن يؤجلوا احتفالاتهم بحل النزاع. فبعد 30 عاما وأكثر من 40 الف قتيل اسقط النزاع محاولات عديدة لإسكات صوت المدافع. ويشير المراقبون الى ان مبادرة quot;الانفتاح على الكردquot; التي طُبل لها كثيرا وأُسيئت ادارتها أكثر عندما اطلقها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في عام 2009 ، تحطمت على صخرة ردود افعال قومية متشنجة. وفي عام 2011 انهارت سلسلة من المحادثات مع قياديين في حزب العمال الكردستاني بينهم اوجلان ، وسط هجمات متجددة شنها الحزب. وفي هذه الأثناء أقنعت حملة من الاعتقالات التي طالت آلاف السياسيين والأكاديميين والصحفيين والناشطين الكرد ، معتدلين ومتطرفين ، كثيرا من كرد تركيا بأن حكومتهم لا تريد حلا عن طريق المفاوضات.
ويعكس قرار انقرة وضع اوجلان في مركز المحادثات الجديدة فشل السياسات السابقة ، والأكثر من ذلك فشل أمرٍ قلة من السياسيين في تركيا يتجرؤون على الاعتراف به ، وهو ان الزعيم الكردي بعد ما يربو على 10 سنوات من الحكم عليه بالسجن المؤبد ما زال يمسك مفتاح السلام بيده. وقبل سنوات قليلة كان من شأن الاتصال العلني باوجلان الذي يُعد بنظر كثير من الاتراك الشيطان نفسه مجسدا في انسان ، أن يعرِّض الحكومة التركية الى تهمة الخيانة. اما اليوم فان الاتصالات مع اوجلان تعتبر ببساطة الخيار الذي له أفضل فرص النجاح ، كما يبين غياب الضجة على التعامل معه في اوساط الرأي العام التركي. ومما له مغزاه ان حزب الشعب الجمهوري نفسه الذي نادرا ما يفوت فرصة لاتهام اردوغان قرر هذه المرة ان يكون الشك لصالح المتهم ويمنح رئيس الوزراء التركي فرصة لتجريب حظه مرة أخرى.
وقد يكون تجاوز اوجلان متعذرا بالفعل. فمنذ عام 1984 ، عندما رفع حزب العمال الكردستاني بقيادته السلاح ضد الدولة التركية ، عزز اوجلان مكانته بوصفه زعيم الكرد القومي. وبمقدار ما يتمتع به من ذكاء وكاريزما ومن قسوة وتسلط فان ابو ، كما يُلقب اوجلان ، لم يفقد قط سيطرته على الحركة القومية الكردية. وما زال اوجلان الى اليوم قادرا ، حتى من سجنه في جزيرة نائية ، على الهاب العواطف وتهدئتها حسب مشيئته. وقبل ثلاث سنوات عندما شكا اوجلان عن طريق محاميه من ضيق زنزانته الجديدة انفجرت الاحتجاجات في عموم المدن الكردية في تركيا. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2012 أثبت اوجلان مرة أخرى انه قوة يُحسب لها حسابها عندما دعا مئات المعتقلين الكرد ، الذين كان بعضهم على حافة الموت بعد 68 يوما بلا طعام ، الى تعليق اضرابهم. واستجاب الجميع بلا استثناء في لمح البصر.
ونقلت مجلة فورين بولس عن الكاتب والصحفي جنكيز جندر ان تدخل اوجلان لإنهاء اضراب السجناء الكرد عن الطعام احدث تغييرا في قواعد اللعبة برمتها. واضاف جندر ان اوجلان باستعراض نفوذه وموقعه بين الكرد منح فرصة الى المسؤولين الاتراك quot;الذين يسعون الى ايجاد حل عن طريق المفاوضات ويريدون ان يقوم اوجلان بدور مركزي في هذا الإطارquot;.
وقد تكون عوامل أخرى أسهمت في التحرك الجديد من اجل السلام. وفي حين ان الحملات العسكرية الأخيرة ضد قواعد حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا وجبال شمال العراق ربما أضعفت الحزب فانها أخفقت في قصم ظهره. كما ان تداعيات النزاع في سوريا المجاورة حيث ظهر فرع حزب العمال الكردستاني بوصفه أقوى لاعب في المناطق الكردية ، زادت المشكلة تعقيدا على انقرة. وسواء تلقى حزب العمال الكردستاني دعما مباشرا من النظام السوري ، كما يدَّعي الاتراك ، أو لم يتلق مثل هذا الدعم فالمؤكد ان الحزب استثمر التطورات الجارية عبر الحدود لصالحه وصعد هجماته ضد اهداف تركية جاعلا 2012 اشد الأعوام دموية منذ اعتقال اوجلان.
ثم هناك الاستحقاقات الانتخابية. ففي العام المقبل سيتوجه الاتراك الى صناديق الاقتراع في انتخابات محلية ورئاسية. وكالعادة سيتنافس حزب العدالة والتنمية على حصة من اصوات الناخبين الكرد. وسيعمل سياسيو الحزب ، بمن فيهم اردوغان الذي من المرجح ان يرشح للرئاسة ، على اقناع الكرد بأن تقدما يتحقق نحو الاستجابة لمطالبهم. وقال الكاتب والصحفي جنكيز جندر لمجلة فورين بولسي quot;ان القضية الكردية التي ما زالت بلا حل ، مع موقف حزب العمال الكردستاني في تصعيد اعمال العنف ، ليست مناخا مشجعا في موسم الانتخاباتquot;.
وبالطبع هناك ما يكفي من القوى التخريبية التي يمكن ان تحاول إجهاض المحادثات قبل ان تبدأ جديا. واحدى هذه القوى مجموعة من الصقور في الجيش والشرطة والقضاء استعرضت عضلاتها آخر مرة في شباط/فبراير 2012 عندما استدعى الادعاء العام رئيس الاستخبارات هاكان فيدان بتهمة تجاوز صلاحياته خلال المحادثات السرية التي أجراها مع حزب العمال الكردستاني. كما ان جناحا متشددا داخل حزب العمال الكردستاني قد يعمل على إفشال أي محاولة لتحقيق السلام. وفي 7 كانون الثاني/يناير هاجمت مجموعة من عناصر الحزب موقعا للجندرمة التركية في جنوب شرق تركيا واسفر الهجوم عن مقتل جندي تركي. وبعد يومين اغتال مسلحون مجهولون في باريس ثلاث ناشطات كرديات بينهن العضو المؤسس في حزب العمال الكردستاني ساكين كانسيز ، في ما يبدو انه استفزاز مباشر. واعرب الكاتب جندر عن ثقته بأن مقاتلي حزب العمال الكردستاني سيلتزمون بأي اتفاق يتوصل اليه اوجلان مع الحكومة التركية. وقال جندر انه لا يتفق مع الرأي القائل ان quot;هناك اوجلان وهناك حزب العمال الكردستاني وان الحزب منظمة ذات راسين. فان ما يقرره اوجلان ينفذه التنظيمquot;.
ويتفق الصحفي يلديراي اوغور الذي نشر نبأ زيارة النائبين الكرديين عطا وترك الى جزيرة امرالي ، مع جندر مؤكدا quot;إذا قال اوجلان ان العمليات العسكرية ستنتهي واننا انتقلنا الى الحلبة السياسية فان حزب العمال الكردستاني سيقبل بذلكquot;. ونقلت مجلة فورين بولسي عن اوغور قوله quot;ان اوجلان شبه إله بالنسبة لحزب العمال الكردستانيquot;.
ولكن مكانة اوجلان الاستثنائية بين الكرد قد تصبح في مرحلة لاحقة جزء من المشكلة. وكان قياديون في حزب العمال الكردستاني وسياسيون كرد حذروا في السابق من انه لن يكون هناك حل ناجع للقضية الكردية ما لم يشمل الحرية لاوجلان ، أو نقله الى الإقامة الجبرية على أقل تقدير. وفي حين ان شروط التسوية التي تحدثت التقارير عن تحديد معالمها في خارطة الطريق التي اقترحها اوجلان قد تبدو مستساغة للرأي العام التركي فان هذا الشرط تحديدا لن يكون مستساغا بكل تأكيد بين أوساط واسعة من الاتراك. واعلن اردوغان قبل ايام quot;ان الاقامة الجبرية ليست واردةquot;.
وقال الصحفي اوغور لمجلة فورين بولسي ان اوجلان قد يكون صاحب نزعة نرجسية ولكنه سياسي أذكى من ان يجعل ذاته موضوعا للمفاوضات في بداية انطلاقها. وإذا أُثيرت قضية مستقبله فانها ستُثار في نهاية العملية ـ بعد حل حزب العمال الكردستاني. quot;وبعد ذلك قد تتغير نظرة الرأي العام التركي الى اوجلان ، وربما حينذاك سيقبل الرأي العام نقله الى الاقامة الجبريةquot;.
وقال اوغور quot;نعم ، ان رئيس وزرائنا قال ان هذا محال ولكن في تركيا ليس هناك الكثير مما هو محالquot;.