إذا كانت فرنسا تستطيع أن تقصف مواقع المتمردين في شمال مالي فإنها ستواجه صعوبات في إغلاق قنوات تسليحهم، فالمتمردون يمتلكون ما يكفي من المال لشراء الأسلحة.


يتطلب خوض الحرب توفر ثلاثة عناصر أساسية هي السلاح والرجال والمال. والجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في شمال مالي حيث تقصفها القوات الفرنسية تتمتع بوفرة من هذه المستلزمات الثلاثة كلها بفضل سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا بل ، وهنا تكمن المفارقة، بفضل الحكومات الغربية نفسها التي دفعت الى الجماعات الاسلامية ملايين الدولارات من الفديات خلال السنوات الماضية مقابل الإفراج عن رهائن أوروبيين في الصحراء الكبرى.
وقال الخبير الأمني ورئيس المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن فرانسوا هايسبورغ quot;ان الجماعات الجهادية مترعة بالمال وفي موقع يتيح لها شراء كل ما يكون في متناول يدهاquot;. ونقلت مجلة تايم عن هايسبورغ قوله ان القذافي كان لديه أكثر من ألف مستودع للسلاح quot;وبالتالي ما زال هناك الكثير من المعدات التي تتدفق في كل الاتجاهاتquot;.
وتشكل قناة إيصال السلاح الى المتمردين في مالي من ترسانة النظام الليبي السابق، مبعث قلق للحكومات الأفريقية والغربية منذ مقتل القذافي في تشرين الأول/اكتوبر 2011. وكان القذافي مهووسا بشراء السلاح وانفق مليارات من عائدات النفط خلال سنواته الأخيرة على استيراد أحدث الأسلحة وخلَّف وراءه مخازن ضخمة مليئة بالصواريخ والرشاشات والمنظومات المضادة للطائرات بلا حراسة ، وكان كثير منها لم يزل في صناديق لم تُفتح. وفي غضون ساعات من مقتل القذافي انسحب العديد من المقاتلين الطوارق الذين كانوا مرتزقة قاتلوا مع قوات القذافي ، الى الصحراء ناقلين معهم كل ما يمكن حمله من هذه الأسلحة بشاحناتهم الخفيفة. وتمكنت الجماعات العرقية الانفصالية المتعددة والميليشيات الاسلامية التي اجتاحت شمال مالي من بسط سيطرتها على المنطقة بهذه الأسلحة تحديدا.
ولكن بعد 16 شهرا على سقوط القذافي لم تُغلق هذه القناة التي يتدفق منها السلاح. وقال تقرير اصدره مركز الاتحاد المدني ـ العسكري التابع لقيادة عمليات حلف شمالي الأطلسي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي ان الطوارق استمروا في بيع كميات من السلاح المسروق من ترسانة القذافي الى الحركة الوطنية لتحرير ازواد ، الجماعة الرئيسة التي سيطرت على شمال مالي في آذار/مارس العام الماضي.
ورغم هذا الخطر المتعاظم فان الحكومات الغربية والأفريقية تأخرت طيلة أشهر قبل ان تتحرك والقرارات التي كان يتعين اتخاذها العام الماضي لم تُتخذ وقتذاك. وإذ كان المسؤولون يدركون جسامة المهمة المتمثلة بتأمين آلاف الكيلومترات من الحدود التي يستخدم رعاة الإبل ورجال القبائل طرقها الرملية منذ قرون فانهم اعربوا عن قلقهم ولكنهم لم يتخذوا اجراءات ملموسة يُعتد بها. وتفصل مالي عن ليبيا منطقتان صحراويتان شاسعتان في الجزائر والنيجر ولكن حدود البلدين حدود مفتوحة عمليا لمن يريد عبورها ولم يكن لدى اي من البلدين حافز قوي لوقف تدفق السلاح عبرها. ونقلت مجلة تايم عن رئيس المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن فرانسوا هايسبورغ ان موقف الجزائر التي لديها أكبر جيش بين دول المنطقة كان موقف quot;اهمال حميدquot; موضحا انه quot;ما دام الجهاديون يهتمون بشؤونهم ويعملون خارج الجزائر فان الجزائريين لم يريدوا توريط أنفسهمquot;.
ورغم عمل الطائرات الاميركية من دون طيار في المنطقة منذ أشهر، فإن المسؤولين الاميركيين كانوا يؤكدون في تصريحاتهم العلنية ان على افريقيا ان تتصدر الحملة ضد المتمردين في مالي. وقال قائد القوات الاميركية في افريقيا الجنرال كارتر هام لصحيفة لوموند في تشرين الثاني/نوفمبر quot;ان نشاطنا الأهم هو مساعدة بلدان المنطقة على تعزيز الأمن في مناطقها الحدودية. فان هذه الشبكات تهدد موريتانيا وليبيا وتونس وبوركينا فاسو والنيجر عبر حدودهاquot;. وفي ذلك الاسبوع نفسه، اعلن الجنرال الاميركي امام جمع من الطلاب في باريس ان التصدي للجهاديين في مالي مهمة بالغة التعقيد ويحتاج التخطيط لها الى اشهر نظرا للشبكة المتداخلة من المنظمات الاقليمية التي تنشط في المنطقة وحقيقة ان الحكومة المركزية في باماكو التي أُصيبت بالشلل بعد الانقلاب العسكري في آذار/مارس ، لا تمسك مقاليد السلطة بقوة وليس لديها قدرة تُذكر على استعادة السيطرة على الشمال بمفردها.
وبعد شهرين، بدأت الدول الغربية والأفريقية تتحرك مدفوعة بتقدم المقاتلين الجهاديين نحو باماكو وتهديدهم بتحويل مالي ، حليفة الولايات المتحدة التي تزيد مساحتها مرتين على مساحة تكساس ، الى دولة فاشلة تعبث بها جماعات اسلامية متطرفة. وبعد اشهر من دعوة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الى التدخل الدولي نفد صبره اخيرا وأمر يوم الجمعة بارسال قوات خاصة وقصف معسكرات المتمردين الاسلاميين في شمال مالي. واسفر التدخل الفرنسي عن وقف تقدم الاسلاميين وفرار مقاتليهم في الصحراء ، كما افاد وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لو دريان. وقال لو دريان للصحافيين يوم الاثنين ان الضربات الفرنسية أوقفت تقدم المتمردين المتمركزين شرقي البلاد وان القوات المالية والفرنسية تقاتل quot;جماعات حسنة التسليح جداquot; في الغرب.
ولكن حتى بعد وقف تقدم المتمردين فان قطع امدادات السلاح من ليبيا مرة والى الأبد قد يكون صعبا مع ان القناة الليبية ليست القناة الوحدية لتهريب السلاح الى مالي. ففي موريتانيا جارة مالي الغربية اختفت اسلحة من مستودعين تابعين للجيش الشهر الماضي. ويعمل حلف الأطلسي على محاولة تدمير بعض مخازن الأسلحة التي يعتقد مسؤولون انها تمد جماعات متمردة في المنطقة.
وتكمن المشكلة في ان منطقة الساحل في شمال افريقيا تضم عددا من أفقر بلدان العالم ، تتفشى فيها الجريمة ، بما في ذلك تجارة السلاح والمخدرات ، التي تحقق ارباحا كبيرة ، ولا سيما ان هناك زبائن قادرون على شراء هذه البضاعة مثل الجماعات الاسلامية. ويعتقد الخبير هايسبورغ ومحللون آخرون ان الجماعات الجهادية حسنة التمويل بعد ان حققت ثروة كبيرة من الفديات التي دُفعت مقابل الافراج عن رهائن من سويسرا واسبانيا والنمسا وفرنسا ودول اخرى. ورغم نفي الحكومات الغربية دفع فديات فان غالبية الخبراء في المنطقة على اقتناع بأن دفع فدية ممارسة شائعة. ويقول هايسبورغ ان خطف الرهائن والافراج عنهم مقابل فدية كان quot;تجارة مربحة جدا جداquot; للجهاديين.
وبعد أشهر من التردد بشأن ما ينبغي عمله في مالي وافق رؤساء وزراء الجزائر وليبيا وتونس أخيرا على البدء بتسيير دوريات مشتركة لضبط الحدود وتبادل المعلومات الاستخباراتية بما في ذلك عن تجارة المخدرات في المنطقة التي يعتقد مسؤولون أنها تمول عمليات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي. وقال الرئيس التونسي منصف المرزوقي لقناة فرنسا 24 التلفزيونية ان بلاده quot;اخذت تصبح ممرا للأسلحة الليبيةquot; التي تصل عبر طرق صحراوية نائية في الجزائر الى مسلحي القاعدة الذين تربطهم اواصر قوية بالمتمردين في شمال مالي. وقال المرزوقي ان حركة التمرد في المنطقة quot;عش دبابير يمكن ان يهدد أمن جميع البلدان ، ومنها تونسquot;. ويبدو ان هذا العش تعرض اخيرا الى ضربة أطارت سكانه في كل الاتجاهات.