بعد صراعات مريرة مع العراق وسوريا وتركيا، قامت كردستان العراق، وتدير كردستان الغربية أمرها شبه ذاتي في الشمال السوري، لكن أكراد تركيا اكتفوا بانسحاب عسكري إلى شمال العراق بلا دولة، بعدما تخلى عبدالله أوجلان عن أحلامه الانفصالية.

بيروت: في الحادي والعشرين من آذار في كل عام، يحتفل أكراد العالم باليوم الجديد أو نوروز، المتعارف عليه عربيًا بعيد النيروز. وهذا من أشهر أعياد الشرق وأقدمها، يصادف مع بداية شهر الربيع في رأس السنة الشمسية عند الأكراد والفرس، وتسود فيه البهجة والشعور بالأمل في تجديد الحياة نحو الأفضل.
كردٌ وفرس
ويوم الأكراد والفرس الجديد هذا متلاصق في وعي المشرق القديم بخيالات أسطورية موازية لمعتقدات دينية لا تمت إلى الرسالات السماوية بصلة، بل تنبع من صراع مستدام بين خير وشر، نور وظلام.
لكن هذا الصراع ليس واحدًا في مخيلة الأكراد والفرس، إنما يختلفان في تخيلهما الأسطوري. فالأكراد يستذكرون الملك سرجون الظالم، الذي كان يذبح كل يوم عددًا من خيرة الشباب، نزولًا عند مشورة أطبائه وحكمائه الذين أشاروا عليه إن هذا هو السبيل لشفائه من مرض عضال ألمّ به. إلى أن ثار عليه حدادٌ اسمه كاوا، فسار خلفه الناس وأضرموا نارًا على قمم جبال كردستان، معلنين انهيار الحكم الظالم وابتداء يوم جديد من الحرية. وقد حصل ذلك مع حدوث الاعتدال الربيعي.
أما الفرس فيعودون إلى ملحمة الشاهنامة، أو ابتداء الخليقة، ويعتقدون أن هذا اليوم كان يوم انتشاء ملكهم الأسطوري جمشيد بن طهمورث، الذي ملك ما لم يملكه ملك قبله، ووضع الجن تحت إمرته، حملوا سريره مرصعًا بالجواهر وطافوا به في كل الممالك. وكان ذلك في أول يوم من السنة، وقت حلول الشمس في برج الحمل.
... ومصريون
وللنيروز في مصر حصة أيضًا. إلا أنه هناك أول يوم من أيام السنة الزراعية القبطية الجديدة، مستقاة من ني ياروؤ أي الأنهار بالقبطية. ومنقول عن الأنبا لوقا المتنيح قوله إن النيروز في مصر اختصار لفظي لعبارة نيارو أزموروؤو، وهي قرار شعري معناه quot;للخالق أن يبارك الأنهارquot;.
ففي هذا التوقيت السنوي، كان يحين ميعاد اكتمال موسم فيضان النيل في مصر، سبب الحياة والخصوبة والتجدد فيها. وحين أتى اليونانيون مصر، أضافوا حرف السين إلى آخر الكلمة، على عادتهم في اللفظ، فتحولت إلى نيروس.
أما العرب، فعندما حلوا في مصر، ظنوا الكلمة نيروز الفارسية، وتداولوها على هذا السبيل.
نيروز جديد
كان العيد يمر في كل عام، زاهيًا على الفرس والمصريين، ومقيتًا على الأكراد، الذين نهلت منهم الحروب آلاف القتلى والجرحى، وشتتتهم في أصقاع الدنيا، إذ تعاونت دول انتشارهم في المنطقة، وخصوصًا سوريا والعراق وتركيا، على قمعهم وحتى مهاجمتهم بأسلحة دمار شامل.
إلا أن العقد المنصرم أزهر نيروزًا مختلفًا، بعدما وجد الأكراد العراقيون ضالتهم في إقليم مستقل، يخضع لصيغة الفيدرالية مع حكومة اتحادية تسكن بغداد، لا تربطه بها إلا حصة نفطية من ثروات العراق، خصوصًا بعد وصول الأمر بين الاقليم والوطن الأم إلى استنفار عسكري كان سيؤدي أخيرًا إلى حرب بين الجانبين.
كردستانان
وكذلك شهد أكراد سوريا نيروزين مختلفين قليلًا عما سبقهما، وذلك خلال عامين من الثورة السورية المستمرة. فقد نعموا بشبه إدارة مستقلة لمناطق انتشارهم في شمال وشمال شرق سوريا، بين عفرين والقامشلي، على امتداد مئات الكيلومترات المحاذية لتركيا. وقد أطلقوا على هذا الشريط اسم كردستان الغربية، تمييزًا لها من كردستان العراق، لأن أكرادها حضروا إليها بسبب الحرب التركية عليهم.
وفي كردستان الغربية هذه، يمسك الأكراد بزمام أمورهم بتسهيل من نظام البعث في سوريا، إذ وجد ذلك سبيلًا لاكتسابهم إلى جانبه في معركة الوجود التي يخوضها، خصوصًا أن التنافر واضح، وصل حد المعارك العسكرية، بين عناصر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والثوار السوريين ذات التوجه الاسلامي المتشدد. وهذا التنافر لم يخفف من وطأته تبوّؤ عبد الباسط سيدا الكردي رئاسة المجلس الوطني ردحًا من زمن الثورة، واختيار غسان هيتو الكردي رئيسًا للحكومة السورية الموقتة.
تنازلات من الجانبين
وحدهم أكراد تركيا بقوا بلا نيروزهم الجديد، وبلا كردستانهم، لكنهم ينتظرون اليوم إعلان خواتيم سعيدة لمفاوضات حثيثة جرت بين عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون في جزيرة أمرلي، وبين رجب طيب إردوغان، رئيس الحكومة التركية. وبفعل هذا الاتفاق، سيأمر أوجلان أكراده بالانسحاب من تركيا إلى قنديلي في شمال العراق، مقابل تعزيز أنقرة المكاسب الديمقراطية لأكراد تركيا، سياسيًا وثقافيًا.
لا بد أنه نيروز مختلف أيضًا بالنسبة إلى أوجلان وإردوغان على السواء. فهو نيروز تخلي أوجلان عن أحلام حزبه الانفصالية، ونيروز تراجع إردوغان عن تشدده إزاء الهوية الكردية التي أراد طمسها، في معرض رحلته نحو نظام رئاسي تركي يرأسه بنفسه. قد يكون مبرر أوجلان أن القضية التركية لا تعيش إلا على أنقاض أنظمة عربية قتلت من الأكراد أكثر مما قتلت تركيا، لكن إردوغان يذهب في هذا الأمر مدفوعًا بواقع أملاه عليه النزاع السوري.
فقد تبين للأتراك أنهم بفتحهم الحدود على مصاريعها للثوار السوريين، إنما يدفعون بمقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى الانتظام في معسكر منتظم ومسلح في كردستان الغربية، المدعومة من الجيش النظامي السوري، الذي يبدو أن الأكسيجين الروسي لن يدعه يموت في القريب العاجل. وهذا ما دفع بإردوغان إلى الدخول في مفاوضات مع أعدائه الأكراد، والاتفاق معهم على بنود لم تتضح بعد. وحدها الأيام المقبلة كفيلة بتبيان ما ستسفر عنه هذه التحولات.