الشعب الشيشاني ابن جبال قوّت شكيمته، فتصدى للحملات الروسية القديمة، ورزح تحت عنف جوزيف ستالين وقمعه، وهزم جيش بوريس يلتسين، قبل أن تشتته مدافع فلاديمير بوتين. لكنه بقي متحدًا بسبب إسلامه. ومن هذا الشعب أتى منفذا هجوم بوسطن، اللذان نفّسا عن غضبهما في أرض غير أرضهما.
عبد الاله مجيد من لندن: يذهب باحثون إلى أن شعب الشيشان لا يمكن أن يُفهم من دون فهم الجبال التي انجبتهم، مثلما أنجب زمهرير الأطلسي البريطانيين أو مثلما انجبت الهجرة الاميركيين.
ظلت جبال الشيشان منيعة آلاف السنين، وكان بمقدور الجيوش أن تلتف حولها من النهاية الشرقية عبر داغستان واذربيجان على شواطئ بحر قزوين أو شق طريقها على امتداد ساحل البحر الأسود.
ولكن هناك بين البحرين هضبة القوقاز الأعلى في اوروبا، ولا يمكن عبور هذا المانع الطبيعي إلا سيرًا على الأقدام.
وهذا لا يكون متيسرًا إلا صيفًا. وكان يمتد جنوب الجبال بهاء العالم القديم من الآشوريين والمنديين والفرس والبيزنطينيين والاسكندر المقدوني وغيرهم.
وجاء الروس!
كانت هناك امبراطوريات الجنوب، لكن شعوب المناطق الواقعة شمال هذه الجبال لم تكن بحاجة إلى الوحدة لصد الغزاة، بل كانت القرى تحكم نفسها بنفسها من دون أن تعترف بسيد آخر عليها. ينهب بعضها بعضًا وتسود بينها التجارة في مأمن من الغزاة، بفضل القمم الشاهقة التي تحمي ظهرها.
هكذا كانت الحال إلى أن جاء الروس، الذين حاربوا كل الأقوام التي اعترضت توسعهم جنوبًا، في البداية ببعثات استكشافية قليلة في عهد بطرس الأكبر ثم بقوة الجيوش في عهد كاترين الكبرى.
وكان اكبر صدام حضاري في التاريخ الاوروبي ذاك الذي وقع بين جيوش الدولة الروسية الاستبدادية المركزية ذات النزعة العسكرية وفرسان القوقاز الفوضويين المشتتين الذين لا يشكلون بغياب التنظيم تهديدًا لمن يعيش بعيدًا عنهم يومًا أو يومين على ظهر الحصان.
منصور البطل
كتب قائد عسكري روسي في العام 1785: quot;في قرية اولدي، ظهر نبي وبدأ يبشر، فأخضع أهل الخرافة والجهل لإرادته مدعيًا النبوةquot;.
سار الروس على قرية اولدي ودمروها، لكن النبي الذي كان اسمه اوشورما لكنه يُعرف الآن باسم شيخ منصور كان لهم بالمرصاد. وقُتل نصف القوات الروسية البالغ تعدادها 3000 جندي في كمين حين كانوا عائدين إلى بلدهم.
اصبح شيخ منصور بطلًا بنظر مسلمي الشيشان وداغستان المجاورة.
لم تدم قيادة منصور طويلًا. فبعد بضعة انتصارات، هرب ثم وقع في الأسر ومات في حصن قرب مدينة سان بطرسبرغ. كان أول تجسيد لعدو واجهه الروس في القوقاز، إذ جمع الاسلام والقومية في حركة واحدة شديدة البأس.
الأئمة القادة
خلال القرن التالي، قام قادة أئمة من سكان الجبال في الشيشان والداغستان ضد الروس. كانت مقاومتهم بطولية لكنها كانت محكومًا عليها بالفشل. فهم نازلوا القوة التي هزمت نابليون. واضطر إمام شامل، آخر قادة المحاربين الجبليين إلى الاعتراف بذلك حين أُخذ لمقابلة القيصر بعد أسره في العام 1859.
وكان شامل، وهو داغستاني اصلًا، صريحًا بلا مجاملة كالشيشان الذين قاتلوا من أجله، لكنهم رفضوا طاعته بأي شكل، مثلما رفضوا طاعة الحكام الآخرين، أكانوا غرباء أو من أبناء جلدتهم، وما زالوا يرفضون حتى يومنا هذا.
ورغم أن الشيشان عاشوا في وطنهم، فإنهم عاشوا أمة مهزومة، وصودرت أفضل أراضيهم وأُعطيت للقوزاق، ولم تُمنح ثقافتهم فرصة للتطور والازدهار.
وعندما سقط حكم القيصر، لم يحوّل سقوطه الجبليين الفوضويين إلى فلاحين على النمط الروسي. وبعد العام 1917، وعد الشيوعيون بمساعدة الشيشان على التنور في الدولة الحديثة التي قرروا بناءها.
يستحقون الابادة
قال قوميسار القوميات في مؤتمر الحزب الشيوعي في العام 1921: quot;حُكم على هذا الشعب بمعاناة لا تُصدق وبالانقراضquot;.
وكان القوميسار يعرف ما يقول، لأنه كان نفسه قوقازيًا اسمه جوزيف جوغاشفيلي، المعروف على نطاق أوسع باسم جوزيف ستالين.
لكن وعده للشيشان كان يخفي في ثناياه افتراضًا خاطئًا، مؤداه أن الشيشان حقًا يريدون أن يصبحوا مواطنين سوفيات. ولكنهم لم يريدوا ذلك. وظل quot;قطاع الطرقquot; يتربصون بالسلطة الجديدة في الجبال.
وطالت حملات التطهير الستالينية نحو 35 الف شيشاني في العام 1931، و14 الفًا بعد ست سنوات. لكن الشيشان رفضوا الاستسلام. وبحلول العام 1944، توصل ستالين إلى ما توصل اليه القياصرة من قبله وهو أن الشيشان لن يخضعوا لأحد وانهم يستحقون الإبادة.
وفي 23 شباط (فبراير) منذ ذلك العام، تحركت قوات الجيش الأحمر واعتقلت شعبًا بأكمله، وضعته في قطارات ونقلته إلى آسيا الوسطى، فهلك 35 في المئة منه بسبب الصقيع.
وكان ذلك منعطفًا حاسمًا في تاريخ الشيشان الحديث، إذ انتزعوا من جبالهم وتم رميهم كما النفايات في أرض غريبة منبسطة. واعترفت الحكومة الروسية بأن ما فعله ستالين كان إبادة جماعية.
نصرٌ فهزيمة
حافظ الشيشان على وحدتهم بفضل ديانتهم الاسلامية ومساهمة الطرق الصوفية باخوانياتها المغلقة وطقوسها السرية، على حد تعبير مجلة فورين بولسي، مشيرة إلى أن الجيل الذي نشأ في كازخستان نشأ وهو يحمل بذرة الإحساس بالحيف والظلم الذي وقع على شعبه.
ونمت تلك البذرة في التربة الخصبة التي أوجدتها سياسة إعادة البناء (بيريسترويكا) في عهد ميخائيل غورباتشوف، وأزهرت استقلالًا في الأيام الأخيرة من الاتحاد السوفياتي قبل انهياره.
ومن بين القرارات الكارثية العديدة التي اتخذها الزعيم الروسي بوريس يلتسن قرار الحرب على الشيشان، ظنًا منه أن حربًا خاطفة ضد الشيشان المتمردين ستعزز شعبيته الهابطة في اواخر العام 1994. فأرسل يلتسن دباباته ليوحد شعبًا كان ماضيًا نحو الاقتتال الداخلي، فهُزم جيش موسكو الجبار في شوارع غروزني.
وبعد رحيل الروس، عاد الشيشان إلى التقاتل بدفع من مندسين ارسلتهم موسكو، كما تقول فورين بولسي، مضيفة أن الصراع أصبح الآن بين اسلاميين ومافيات ووطنيين علمانيين وشيشان عاديين لا يريدون شيئًا سوى العودة إلى الحياة الطبيعية. وفي العام 1999، اجتاح الشيشان داغستان، وجاء زعيم جديد في الكرملين قرر أن صبره نفد معهم.
ولكن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين لم يرتكب اخطاء يلتسن، فلم يرسل جيوشه إلى مصيدة غروزني، بل دكت مدافعه العاصمة الشيشانية مجبرًا المقاتلين على القتال في فضاءات مكشوفة، فماتوا بالالغام أو القنابل أو الاعدامات، بحسب مجلة فورين بولسي.
لم تجدِ نفعًا
إنحسر تعاطف المجتمع الدولي مع الشيشان خلال السنوات اللاحقة، عندما أخذ مقاتلون منهم يلجأون إلى ارتكاب الفظائع، في محاولة لإجبار الروس على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ومن هذه الأعمال المريعة السيطرة على مسرح في موسكو، ومدرسة في رسلان، وتفجير قطارات وحافلات وطائرات. لكنها لم تجدِ نفعًا، وأحكمت موسكو قبضتها على وطن الشيشان، الذي نزح منه آلاف بلا عودة في شتات بأوروبا الغربية ودول الخليج والشرق الأوسط.
وهكذا كان مآل الأخوين تسارناييف، اللذين حطا رحالهما في بوسطن عن طريق داغستان وقرغيزستان، شابين جبليين عنيدين من شعب محارب فقدا بوصلتهما فقررا خوض معركة عبثية غير مبررة، على بعد آلاف الكيلومترات من الجبال التي كانت ذات يوم وطنًا، أُجبرا على مغادرته إلى أصقاع غربية غريبة.
التعليقات