رغم أن نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) ولّى قبل عقدين في جنوب أفريقيا، يبقى جيب صغير بمقاطعة الكيب الشمالي يعتبره أهله نواة الدولة المستقلة لجميع البيض الآفريكانرز. وهذا جيب اتخذ لنفسه رموز الاستقلال بما فيها العملة القومية.
لندن: "مرحبا بكم الى اورانيا"... هكذا تقول الجدارية بالأزرق والأبيض والبرتقالي مع رسم لصبي يشمّر عن ساعديه.
ومع ذلك، فإن الترحاب مضلل نوعاً. فهذه البلدة الصغيرة في مقاطعة الكيب الشمالي في جنوب أفريقيا لا تفتح ابوابها للجميع. ذلك أن للألوان المختارة للجدارية وصورة الصبي المتخذة شعارًا للبلدة مغزى يتصل مباشرة بفترة التمييز العنصري (الأبارتيد) وعلمه وبقية رموزه.
اورانيا
على ذلك النحو يمكن القول إن اورانيا هي آخر حصون ذلك العهد الذي كان يضطهد الأغلبية السوداء على أرضها ووطنها. ويتجلى هذا بوضوح في أن سكانها يعتبرونها كيانًا مستقلاً بالكامل حد أنهم اتخذوا لهم عملة خاصة لا يعترفون بغيرها.
وهذه البلدة هي تشخيص الحلم الأبيض، وبرزت الى الوجود في أرياف المقاطعة الجنوب أفريقية العام 1991، أواخر سنوات الابارتيد، ويقطنها نفر لا يزيد عددهم عن ألف شخص. لكنها منطقة ndash; كما كانت الأمور في ما مضى من زمان مظلم ndash; مغلقة على البيض دون سواهم وفقًا لتقرير مطوّل نشرته صحيفة laquo;ديلي ميلraquo; البريطانية.
وقد شيدت هذه البلدة التي ترفض الانفتاح أمام رياح التغيير جملة وتفصيلاً على مساحة ثمانية آلاف هكتار من أراضي المزارع الخاصة على ضفة نهر الأورانج في منطقة قصيّة بالإقليم تسمى كارو. وهي تحوي متاجرها وخدماتها العامة الخاصة بما فيها المدارس، إضافة الى متحف يمجّد العهد الذي كان.
لسنا عنصريين ولكن..!
يتحدّر سكان اورانيا جميعًا من الأفريكانرز البيض، المتحدرين بدورهم من مهاجرين هولنديين وألمان. ويذكر أن هؤلاء البيض يشكلون 7 في المئة من عدد السكان في جنوب أفريقيا. ورغم أن هذا الكيان مغلق على الجميع الا البيض، فإن أهاليه يصرّون على أنهم ليسوا عنصريين.
وفي حوار مع تلفزيون "سويتان تي في" يقول كاريل بوشوف الرابع، ابن مؤسس اورانيا الراحل كاريل بوشوف الثالث: "كل ما في الأمر هو أن الوافدين الجدد يخضعون عندما يأتوننا لمعاينة من مجموعة من الأورانيين حتى يتم التأكد بما لا يدع مجالاً للشك من أنهم يدركون ما تعنيه إقامتهم في هذا المكان والتزامهم بأهدافه ومستقبله".
حفظ لثقافة الأبارتيد
يذكر أن كاريل بوشوف الرابع هو حفيد رئيس الوزراء السابق هنريك فيرويرد الذي يعتبر مؤسس نظام الأبارتيد كسياسة رسمية للدولة في جنوب أفريقيا. ويذكر أيضًا أن هذا النظام بدأ في العهد الاستعماري تحت حكم البريطانيين والهولنديين، لكنه صار سياسة حكومية رسمية العام 1948 عندما تبناه "الحزب الوطني" المؤلف في أغلبيته الكاسحة من الافريكانرز.
واليوم، بعد عقدين على نهاية هذا النظام، يقول أهالي اورانيا إنهم فقط يحافظون على ثقافة الافريكانرز ولغتهم. ويضيفون أن غاية أمانيهم هي أن تصبح بلدتهم المستقلة دولة مستقلة معترفًا بها للشعب الأفريكاني البالغ تعداده 3 ملايين شخص في جنوب أفريقيا.
ويقول أهالي اورانيا إن تعدادهم السكاني ينمو بعدل 9 في المئة سنويًا. وفي معرض دفاعهم عن عزلتهم وأسلوب حياتهم الخاص بهم، فهم يشيرون الى أن البند 235 من دستور جنوب أفريقيا نفسه يكفل لهم الحماية لأنه ينص على "حق تقرير المصير لأي مجموعة تقتسم إرثًا ثقافيًا ولغويًا واحدًا طالما كان ذلك في إطار الجمهورية (جنوب أفريقيا)".
السود قادمون
بين اولئك الذين اختاروا اورانيا "وطنًا" جديدًا لهم كوبوس يونك، وهو مزارع وراعي أغنام انتقل الى هذا المكان مع أسرته العام الماضي فقط. وهو يقول: laquo;نشعر بالأمان التام هنا. فلا نوصد أبواب منازلنا بالمفتاح ليلاً ونترك سياراتنا بهذا النحو نفسه حتى خلال الليلraquo;.
لكن هذا الوضع لا يمنع شعورًا واضحًا بالقلق والخوف بين سكان البلدة إزاء ما يخبئه المستقبل. ويعبّر عن هذا الأمر نادل مطعم بقوله إن السود "سيقتلون جميع البيض ما أن يلفظ نيلسون مانديلا أنفاسه الأخيرة". ويذكر أن مانديلا، الذي صار أول رئيس أسود للبلاد في 1994 بعد سجن دام 27 سنة متصلة، توجه في زيارة لإظهار حسن النيّة الى اورانيا في 1995. وهنا تم له لقاء تاريخي مع بيتسي فيرويرد، أرملة هنريك فيرويرد مؤسس نظام الأبارتيد والرجل الذي تولى شخصيًا ايداعه السجن.
ورغم أن بيتسي أعربت وقتها عن فرحها الغامر بزيارة مانديلا، فإن لحفيدتها، إليزابيث فان دير بيرغ، وجهة نظر مغايرة عبرت عنها بالقول: "ليت مانديلا كان رئيسًا لدولة أخرى مجاورة لا نتبع اليها رسميًا"... وتظل هذه بالطبع هي رغبة اورانيا وأهلها وحلمهم بدولة بيضاء خالصة.