لا تمثل التوقعات الاقتصادية حيزا كبيرا من اهتمامات الاقتصاديين بدليل إننا لم نسمع عن اقتصادي حائز على جائزة نوبل لحسن توقعاته لمستقبل الاقتصاد. بعض هذه التوقعات، مثل سعر صرف العملات متوفر مجانا للجمهور من خلال ما تنشره الأسواق الآجلة (التي يتم فيها الإمضاء على العقود بناء على سعر يتم تحديده في الوقت الحاضر، على أن يتم تنفيذ الصفقات في المستقبل)، أي انه لا داعي لإضاعة الوقت و الموارد لإعداد توقعات مثل هذه الأسعار. و البعض الآخر يخص بيانات مثل نسبة نمو الناتج المحلي المتوقعة خلال فترة ما، و هي توقعات لا تتحقق إلا بضربة حظ. أي ان السبب الوحيد لوجود خبراء quot;التوقعات الاقتصاديةquot; في الوقت الحاضر هو وجود مؤسسات مستعدة لدفع مقابل مادي لمثل هذه الخدمات.

ربما لهذا السبب لم اهتم شخصيا بهذا الشأن و لم أقدم على القيام بتوقعات لمستقبل الاقتصاد إلا في بداية السنة الماضية، حيث وجدت نفسي مضطرا لتقييم اثار الأزمة المالية العالمية عندما نشرت مقالي على إيلاف (بعنوان 2009 سنة الركود و الانتعاش الاقتصادي) توقعت فيه نهاية الركود في أواخر السنة الماضية، على أن تكون أمريكا سباقة في استعادة نموها الاقتصادي بحكم عدد من المزايا التي يتمتع بها اقتصادها مقارنة بالاقتصاديات الأوروبية.

بالنسبة للسنة الحالية من المرجح أن يتواصل الانتعاش اقتصادي الذي بدا بالفعل في الولايات المتحدة الأمريكية منذ الربع الثالث من السنة الماضية، و الذي سوف يحقق نسبة نمو سنوي تقدر بحوالي 1،5%، مما يعطي دفعا للاقتصاد العالمي، بما في ذلك اقتصاديات الصين و الهند التي ساعد نموها القوي في 2009 (أكثر من 9% و 7% على التوالي) على التخفيف من حدة الأزمة، بحيث كانت نسبة النمو على المستوى العالمي سالبة لكن بحدود 1،1% فقط.

بالرغم من الإجماع الحاصل بان الاسوا في الأزمة قد أصبح من الماضي، يوجد اختلاف كبير حول النمو الذي سوف يتحقق في هذه السنة. في شق المتشائمين يوجد مروجو نظرية الانتعاش الاقتصادي على شكل حرف quot;Wquot; ( أشهرهم نوبل الاقتصاد جوزيف ستيجليتس) الذين يتوقعون عودة انخفاض الناتج المحلي بعد فترة قصيرة من الارتفاع المحدود. و حجتهم في ذلك أن النمو لا يمكن إن يتحقق في ظل بطالة مرتفعة و انخفاض تمويل البنوك للمؤسسات الاقتصادية (انخفاض بحوالي 3% خلال 2009 في الولايات المتحدة الأمريكية).

كما يؤكد عدد من الاقتصاديين البارزين على استمرار حالة عدم اليقين خلال هذه السنة بالنسبة للمستهلكين و المستثمرين على حد سواء. من أهم عومل حالة عدم اليقين التي ركز عليها البروفيسور quot;جيري بيكرquot; الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في مقاله المنشور على quot;وول ستريتquot; بتاريخ 5 يناير 2010: (1) زعزعة ثقة البنوك و رجال الأعمال و المستهلكين نتيجة إعصار الأزمة المالية مما يتطلب وقتا لاستعادة الثقة، خصوصا في ظل انهيار أسعار المساكن بالإضافة لديون و بطالة مرتفعة، (2) الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد الأمريكي على يد الإدارة الديمقراطية الجديدة (برامج دعم البنوك، برنامج إنعاش الاقتصاد بقرابة تريليون مليار دولار، دعم صناعات السيارات، إصلاح النظام الصحي...) التي ولدت حالة من الشك لدى الأسواق حول مدى نجاحها و حول خطر رفع الضرائب في المستقبل للحصول على الموارد المالية اللازمة كي تتمكن الحكومة من دفع مستحقات الدين العام، و (3) وجود فائض احتياطيات لدى البنوك الأمريكية يقدر بحوالي تريليون مليار دولار، سوف يؤدي إقراضه للمؤسسات و الأفراد إلى ضغوط تضخمية قد يصعب التحكم في تبعاتها.

لكن حالة عدم اليقين هذه قد تنطوي أيضا على مفاجأة سارة إذا ما تحقق نمو اقتصادي عالمي فوق المتوقع. و انا شخصيا أميل إلى هذا الرأي للأسباب التالية: (1) نسب نمو فوق المتوقعة في 2010 لاقتصاديات كبرى مثل الصين و الهند مما سوف ينعكس إيجابا على الدول المصدرة لهذه الأسواق، (2) تحسن مستمر في الدول المتقدمة حيث ارتفع المؤشر الرئيسي المجمع لدول منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية بنسبة 8،2% في نوفمبر 2009 مقارنة بنفس الفترة من 2008، و(3) نجاح الدول النامية في التخفيف من آثار الأزمة بتحقيقها نسبة نمو معقولة في 2009 سوف تتعزز هذه السنة بالانعكاسات الايجابية للنمو في آسيا و الدول المتقدمة. و إذا ما تحقق هذا، سوف يذكر التاريخ الأزمة المالية للسنوات 2008-2009 لا فقط على أنها الأزمة الأكبر منذ الانهيار الكبير لسنة 1929 بل و أيضا على أنها قصة نجاح استثنائي في استعادة العافية، خلال سنتين فقط من الزمن، مقابل قرابة عقد كامل في الثلاثينات من القرن الماضي.

كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن
[email protected]