نقترب يوماً بعد يوم من موعد إنظلاق الحملات الإعلامية للقوائم المشاركة في الإنتخابات العراقية، و مع إقتراب هذا الموعد نلاحظ تشدد التجاذبات أو المشاحنات السياسية بين الأطراف المتنافسة، لاسيما من خلال أجهزة الأعلام الحزبية و المستقلة، وقد تكون هذه الظاهرة، في الوهلة الأولى، طبيعية و مُعَبِرة عن الحريات الديقراطية التي تشمل حرية الرأي و النشر أيضاً و لا ضير أبداً في أن تغدو هذه الظاهرة ثقافة جديدة في المجتمع العراقي، بل مختلفة و متجاوزة لما كانت سائدة إبان حكم النظام السابق، إذ نعلم جميعاً بأن أجهزتنا الإعلامية العراقية و كافة قنواتها، كانت موَجّهة في ذلك العهد من قبل الدولة، بل مؤدلجة حزبياً و مؤيدة سياسياً لكل ما كان يؤمن به النظام، فضلاً عن أنها كانت مفتقرة الى الحد الأدنى من حرية التعبير و النشر، و أنما ظلت، الى يوم زوال الحكم البائد، تحت رقابة الدولة الصارمة و المتشددة، التي فرضتها عليها، لاسيما من خلال وزارة الثقافة و الأعلام.


بعبارة أخرى، ليس ثمة أدنى شك في أن حرية الأعلام هي من منجزات عراق مابعد النظام البائد، و حتى إذا لم يكن للعراقيين حتى الآن أي إنجاز يذكر، فلا مراء من أن حرية النشر و القول و التعبير في البلد، لحد الوصول غالباً الى إطلاق النكات على رئيس الجمهورية و المسؤولين عموماً، هي من محاسن الحريات التي يتمتع بها الناس الآن خاصة بعد أن تحرروا من أغلال الإستبداد. و حرية الإعلام هي دوماً الأرضية الحقيقية لنشر ثقافة سياسية غنية في المجتمع و توسيع أفق التفكير و الإنتماء لدى المواطن و إيصال الخطابات و الإتجاهات المتعارضة و المتضاربة، و بالتالي ترسيخ مباديء الإختلاف و الإئتلاف أو التعارض و التلاحم أو التناقض و التفاهم، و لاسبيل، في رأينا، أصلاً، لتحريك التاريخ أو توجيه نحو المبتغاة إلا بالتعاطي مع هذه الجدلية السياسية و الفكرية و الإجتماعية المطلوبة، التي توَلد الجديد و المختلف و تعزز التماسك الإجتماعي و السياسي بقدر إرساءها لقيم القبول بالآخر و مباديء الحوار و التفاوض أو التضامن و التكافل. إذن، فالإعلام و سيادة حريته هو الوسيلة الفضلى لإنتعاش منابع الحياة السياسية بعد أن جففها الحكم الديكتاتوري. و رغم أننا لسنا من أنصار التعددية السياسية المفرطة التي تشهدها الحالة العراقية، المتمثلة في هذا الخصوص، في تأسيس المئات من الأحزاب و التيارات السياسية لحد صعوبة حتى حفظ أسمائهم و عناونينهم، إلا أننا، مع ذلك، نتفهم أيضاً الدورة الإنتقالية التي تمر بها التجربة العراقية، و لا تشذ حالة أجهزتنا الإعلامية عن هذه القاعدة، إذ هي الأخرى لاتنفك تتفاعل معها، بل نراها تشهد اليوم نقلات و طفرات لم تشهدها من قبل إطلاقاً، و لايُفَسَر اليوم بروز حالات كثيرة من التشهير و القذف و الإتهامات في الكثير من الأجهزة الإعلامية العراقية بحق الناس أو السياسيين أو الشخصيات الإجتماعية و الثقافية أو المؤسسات و الدوائر، إلا بتفاعل الإعلام، إعتباطاً و من دون خبرة و خلفية فكرية و قيمية، مع هذه الدورة الإنتقالية، التي تعقب عادةَ مرحلة ما بعد الديكتاتورية في الكثير من تجارب العالم.


و لكن مع ذلك، لايعني هنا إطلاقاً تفهنا هذا للواقع الإعلامي و السياسي السائد في العراق إرجاء النقد الذي ينبغي علينا توجيه للقنوات الإعلامية التي تقودنا الى الهاوية، و لا نؤمن أساساً بأن إصلاح الإعلام و إعادته الى المسار القويم، المتمثل في رباعية المهنية و الموضوعية و الشفافية و الوطنية، أمر يأتي من تلقاء نفسه، فالمعروف أن الوعي بالفاسد لايكفي وحده و لا يُطرأ على المفسد أي تغيير، سيما إذا ما قررنا نحن، من حيث المبدأ، عدم توظيف وعينا إزاء عالم الأشياء لخطابات علنية تعبر عن مكامن الأخطاء و تعري الخلل في أي مجال حيوي للنشاط الإجتماعي، و وعينا إزاء خطورة أستخدام أجهزة الإعلام غير كاف لوحده إذا ما لم نحوله الى خطاب نقدي و علمي يشخص عيوب و خلل و نقاط ضعف الإعلام و مخاطر أساليبه و مناهجه الخارجة عن قانون الإعلام أو أخلاقيات الصحافة. فالتجربة الكردستانية مثلاً التي هي جزء من التجربة العراقية فيها الكثير الإنحرافات و الإنزلاقات، بحيث نجد اليوم أن العديد من القنوات الإعلامية التي تعتبر نفسها قنوات مستقلة و أهلية، باتت تشتغل على أدق التفاصيل للحياة الشخصية الخاصة بالفنانين و الموهوبين و لاتعتمد في ذلك على الوثائق و البراهين، أو المعلومات الصحيحة و الشواهد الموثوقة، و إنما تنتهج فقط نهجاً إعتباطياً في النشر، و الغاية منه ليس إلا الإثارة بغرض السطو على جيوب الناس و جمع المزيد من المال و الشهرة المزيفة لأناس دخلاء على الإعلام و الصحافة، أي، في النهاية، التجارة بالمهنة و تزييف وعي الناس إزاء الأمور فضلاً عن الإساءة الى سمعة أناس في المجتمع لهم الحق في أن يتمتعوا بحرياتهم الشخصية و لايتدخل فيها أحد، مما حدا هذه الوضعية طبعاً، في آخر الأمر، بإحدى الفضائيات الكردية ( kurdsat ) أن تتخذ موقفاً مشرفاً منها و و تكرس بجراءة برنامجاً عن هذه الفضائح الإعلامية و كشف عناونين عدد من المجلات المتورطة في هذا الأثم الإعلامي، و قد كانت لهذه الفضائية و برنامجه هذا فعلاً صدى كبيرة و ساهمت في توعية جمهور عريض من المتلقين إزاء هذه الظواهر الإعلامية.. عنيت هنا في ذكري لهذا المثال عدم الإكتفاء بالوعي وحده تجاه ظاهرة خطيرة كهذه و أنما يستوجب علينا التعبير عنها و المبادرة في الحد منها بغية فضحها و تعريتها قبل أن تسمم عقولنا و و عينا تجاه الأمور.


أذكر هنا هذا المثل في التجربة الأعلامية الكردستانية لأقف على الحالة العراقية عموماَ، لاسيما أننا نقترب من موعد الحملات الإعلامية للإنتخابات العراقية في ظل إنحرافات أعلامية يشهدها الأعلام السياسي أيضاً و ليس الإعلام الإجتماعي فقط، و نلاحظ أيضاً أن الهواجس السياسية و الدعائية أو الحزبية و المذهبية أو الطائفية والقومية، كلها، صارت تدغدغ الكثير من الصحف و المنشورات، أو المجلات و الفضائيات العراقية، و لا ريب في أن هذه الهواجس و النزعات تنعكس على سياسة النشر و البث بقدر ما تكون هذه السياسة عاملاً من عوامل التحكم بالرأي العام، أو بعقول الناس كما كان يقوله العالم الإجتماعي الفرنسي بيار بورديو. بمعنى آخر، علينا أن نراقب طرق عمل أجهزة الإعلام المكتوبة و المسموعة و المقرؤة و نلزمها بقوانين الإعلام الخاصة بفترات الحملات الإنتخابية و أن لاتكون الدعاية الإنتخابية خارجة عن الأطر المسموحة بها قانوناً و إلا تحول الإعلام الى ساحة مفتوحة لتشهير و قذف و تهوين و تخوين الكيانات السياسية المشاركة في الإنتخابات لبعضهم البعض، لاسيما أننا نعيش وسط ماكنة أعلامية حزبية مُلزِمة بالدعاية الإنتخابية لصالح كيانها السياسي و قنوات أخرى مستقلة/ مُستَغِلة نتوقع منها دوماً إثارة الفتن أو الإنحاز أو الأساءة الى الآخرين مقابل حصولها على حفنة من المال، أو بدافع أحقاد شخصية سياسية تجاه كيانات معينة، و ذلك على غرار ما شهدته التجربة الكردستانية في الإنتخابات الماضية التي أجريت في 25/7/2009 و التي أنحازت مجموعة من الصحف و المجلات، التي كانت تدعي الإستقلالية، لقائمة دون أخرى، بل أعلنت حتى رؤساء تحريرها عن دعمهم الإعلامي للقائمة المرجوة في الوقت الذي كانوا يدعون فيه الحياد و الإستقلالية تضليلاً منهم للحقائق و وعي الناس. بمعنى آخر، علينا نحن الإعلاميين أن نتصرف بروح من المسؤولية و المهنية، و حتى إذا وقفنا الى جانب قائمة دون أخرى، أو كيان دون غيره، فلا نسيء الى سمعة القوى و الكيانات الأخرى أو مرشحيهم، و نرش عليهم شتى التهم و التشهير أو الإفتراءآت و الإسقطاطات الباطلة. أما القنوات الإعلامية المستقلة، فالمطلوب منها الحياد و الإستقلالية الحقيقية، ذلك لأنها منوط بها واجب مهني أو مسؤولية كبيرة، هي نقل الحقائق بوجوهها المختلفة و المتباينة و عدم التورط في الإنحياز و الوقوف الى جانب كيان ضد آخر، ذلك أن هذا النهج يهز صورتها و يخل بمصداقيتها و يكشف بطلان إدعاءآتها.

[email protected]

* رئيس تحرير مجلة ( والابريس ) كُردستان العراق