لقد جرى حديث كثير عن الإختلاط بين الجنسين في الآونة الأخيرة، وقد أثار هذا الموضوع الكثير من النقاشات والحوارات في الأعلام، والأوساط الدينية والشعبية، هذه النقاشات والحوارات أثارت الكثير من ردود الفعل الرافضة من جانب والمؤيدة من جانب آخر. إن أغلب الطرح كان يتناول الموضوع من الناحية الشرعية إن كان الموضوع جائزا ً أم لا، هل هو محرم إبتداءً أم محرم بالعنوان الثانوي، أو من باب سد الذرائع، أي للحفاظ على تماسك المجتمع بالحفاظ على العفة والمنع من أرتكاب المحرم شرعا ً. فالكثير من هم متحفظون على الإختلاط ينطلقون من فكرة الحفاظ على المجتمع، حيث لايوجد دليل شرعي واضح يمنع الإختلاط بين الجنسين، وهنا أعني الإختلاط غير المحرم، ولا أقصد الخلوة غير الشرعية. وعلى هذا الأساس جرى الخلط بين ماهو شرعي عام وبين ماهو ثقافي يتعلق بالعادات والتقاليد المحلية لكل مجتمع.

إلا أن أحدا ً لم يطرح الموضوع من الناحية الإجتماعية في حسناتها وسيئاتها، إذ لاتوجد دراسات علمية في هذا الصدد توضح مدى علاقة هذا الموضوع بواقعنا ومدى أمكانية تطوير هذا الواقع الذي تشير كل المؤشرات إنه واقع مترد ٍ بإمتياز. من هنا سوف أتناول الموضوع من الناحية الإجتماعية من خلال طرح بعض الأفكار التي يمكن أن تساعد في فهم الموضوع بصورة أكثر واقعية ويمكن أن تكون بابا ً يتم من خلاله فتح هذا الملف في أروقة الجامعات والمراكز البحثية لتقديم النصائح لمن بيده الأمر. فلن أتطرق للموضوع من الناحية الشرعية بأي حال من الأحوال.

سأتناول الموضوع من خلال وجهتي نظر، الأولى وجهة نظر علم النفس الإجتماعي، والثانية وجهة نظرعلم الإجتماع. فالفرق بينهما هو أن الأول يتناول تفكير ومشاعر وسلوك الإنسان في لحظة معينة داخل إطار المجموعة، أم الثاني فيتناول وضع المجموعة وكيفية فهمها من خلال سلوكها العام وعلاقتها بالمجتمع كوحدة متكاملة. في هذا الجزء سأطرح وجهة نظر علم النفس الإجتماعي، لكن قبل هذا أريد أن أعرف ماذا أقصد بالتنمية البشرية، التي لها علاقة كبيرة بموضوع الإختلاط (HDI). إن التنمية البشرية، حسب التقارير التي تصدرها الأمم المتحدة، تشمل وضع الفرد داخل المجتمعات والدول من خلال قياس نوعية الحياة، أي دخل الفرد، من خلال قياس الدخل القومي للبلد، طول العمر، مستوى الفقر والتعليم والقراءة، الامكانات الصحية والخدمية، توفير الفرص الجيدة لتطوير الفرد وزيادة وعيه من خلال تمكينه بتحقيق ذاته وإستغلال مهاراته. بإختصار شديد هي تنمية كل مايتعلق بإحتياجات الإنسان النفسية والبدينة.

أعود هنا لموضوع الإختلاط. من أجل فهم طبيعة الإنسان، من منظور علم النفس الإجتماعي، يجب فهم موقع هذا الإنسان وطبيعة علاقاته بالآخرين في البناء الإجتماعي. لكن البناء الإجتماعي (Social Constructionism)، حسب كينيث جيرجين (Kenneth Gergen)، تصور كبير يضم الكثير من العناصر في طياته، لكني سأوجزه هنا بإختصار شديد. فالبناء الإجتماعي يضم جميع العلاقات بين الأفراد في مجتمع ما، فكل شيء موجود في هذه العلاقات والإنسان مجرد جزء بسيط ينعكس في ذهنه هذا البناء الإجتماعي ليشكل وعيه عن ذاته وعن الآخرين ويشكل ذاكرته الحية عن كل شيء. لتقريب الموضوع أكثر إن الفرد ماهو إلا جهاز حاسوب مرتبط عن طريق الإنترنت في الشبكة العنكبوتية التي هي أشبه بالبناء الإجتماعي. فالفرد لايملك الشيء الكثير في هذا البناء سوى خصوصيته البايلوجية وقدراته ومواهبه الطبيعية. أما الباقي فهو كامن في تلك العلاقات بين الأفراد. المعرفة والعلوم، الأخلاق والمعايير في التعامل مع الآخرين، القيم والمبادئ، العادات والتقاليد والأعراف، كل هذا كامن في العلاقات في البناء الإجتماعي الذي ينعكس في وعينا. والوعي لايتطور بالتعليم بالتلقين بل بالحوار في علاقات يضمنها السياق الإجتماعي. فنحن الذين إتفقنا مثلا ً على إن الذهب قيمته عالية لإستخداماته، فهذه القيمة هي نتيجة بناء إجتماعي نكونه نحن. حتى الحقيقة فهي شيء لايملكه أحد بل هي كامنة فيما بيننا في العلاقات التي نكونها، فكل واحد يمتلك شيء من الحقيقة لتتكامل عن طريق التواصل والحوار فيما بيننا.

يحدد جيرجين مجموعة من العناصر التي تكمن في تلك العلاقات. اللغة، فهي كائن حي قابل للتطور ويمكن أن يموت، السلطة (Power)، لايملكها أحد إبتداء ً فهي كامنة في تلك العلاقات، ويمكن إكتسابها حسب طريقة إدارة تلك العلاقة، فسلطة الأب على باقي أفراد العائلة ناتجة عن طبيعة علاقته بهم من خلال تراتب هرمي يكسبه الإنسان من خلال التقاليد السائدة، لذلك تختلف سلطة ونفوذ الأب من مجتمع لآخر. الهوية، بشقيها الجمعي والفردي هي كامنة في العلاقات، أي هويتي عن نفسي لا أمتلكها بقدر ما يعطيني إياها محيطي والأفراد الذين حولي من خلال علاقتي بهم، فهوية الفرد كفنان أو شاعر لايمكن أن يأخذها ويكتسبها وهو يعيش بمفرده في جزيرة غير مأهولة، فقط من خلال العروض التي يقدمها ومن خلال الشعر الذي يلقيه على من خلال علاقته بالآخرين يكتسب الفرد هويته كفنان أو شاعر.

إذن، ثقافتنا السائدة والتي تشكل وعينا موجودة في طبيعة العلاقات فيما بننا في البناء الإجتماعي، ومن خلال تلك الثقافة نصوغ خطاب (Discourse) معين تجاه مواضيع متعددة. فهناك خطاب سياسي وديني وأجتماعي. فيمكن إكتساب الهوية واللغة والسلطة من خلال التفاعل مع الآخرين، ويتم ذلك من خلال الحوار والتواصل. ويكون الحوار من خلال اللغة مكتوبة كانت أم لغة إشارة. فالنقطة المفصلية هنا أن الحوار واللغة يشكل تصورنا عن نفسنا وعن الآخر، فكلما زاد الحوار تفرعا ً أو أرتفع مستواه زاد وعي الإنسان وقلت أخطائه. وحين لايكون هناك حوار يفرض الصراع نفسه وتتحول العملية إلى إقصاء وإلغاء من قبل من يمتلك السلطة. وأقصد بالسلطة بجميع أشكالها حتى سلطة المعرفة أو سلطة الوضع الإجتماعي.

النتيجة من كلامي هذا هي أن صنع الحوار من خلال التواصل يطور وعي الإنسان في جميع المجالات، فالشخص الذي لايقرء ولايكتب تكون علاقاته محدودة بمحيطه فيقل وعيه وتكثر أخطائه، وأقصد بالعلاقات المحدودة أي لايمكن للإنسان الأمي أن يقيم علاقة بشخصيات تاريخة لأنه ببساطة لايستطيع قراءة التاريخ. وكذلك فما يخص المستوى، فعدم وجود علاقة بين الأدنى والأعلى، في كل شيء، يحد من إنتقال الخبرة والتجربة والمعرفة.

أعود للإختلاط، إن الحد من علاقة الرجل بالمرأة من خلال سياسة العزل يضر بالمرأة كثيرا ً. وذلك يؤدي إلى تحديد وعيها بشكل يجعلها تخطأ كثيرا ً ولاتستطيع تنمية قابلياتها النفسية والذهنية. فعدم وجود حوار جاد بين الرجل والمرأة يحد من إنتقال تجربته أليها، فهو الأوفر حضا ً في المعرفة والتجربة. فعلاقة النساء في مجتمعاتنا محدودة بنساء أخريات يمتلكن نفس الكم والنوع من المعرفة فلا يتطورن. حتى في البيت الواحد،حيث تحد سلطة الأب أو الأخ الأكبر بحكم النظام الأبوي الذي لايسمح للرجل بالتنازل والحوار مع العنصر الآخر إلا بشكل محدود وغير متكافئ. العلاقة التي يمكن الإستفادة منها في زيادة الوعي لابد أن تقوم على عنصر التكافئ، أي المساواة في القيمة بين الرجل والمرأة والإعتراف بوجود بالآخر. إذن، فجلوس الفتاة أو المرأة في المنزل بلا عمل يحد من معرفتها ويقلل من إحتمال تطورها النفسي والذهني.

من هنا أقول أن بقائنا بعلاقات محدودة يضعف مجتمعنا ويعيق تطوره للأمام. فعدم مشاركة المرأة في تطور المجتمع كارثة يمكن تجنبها. فلاوجود لتطور ونمو بشري بلا تطور وعي المرأة في قضايا كثيرة. فلابد للمرأة أن تشارك الرجل في صناعة المجتمع من خلال مشاركته الحوار والإنفتاح عليه من خلال التواصل بالحوار لكسب تجربته وتصحيح أخطائه. أي التخفيف من حدة الثقافة الذكورية التي يحملها المجتمع وذلك من خلال طرح خطاب أنثوي، ورفع الحواجز التي تبعد عالمين خلقا لإجل أن يسيرا للأمام. أي رفع هاجس الخوف من الآخر الذي لانعرفه وجعله طبيعيا ً، وذلك بدل فوبيا العفة التي تطاردنا فتجعل منا أكثر تخلفا ً. يقول سبحانه وتعالى في القرآن الكريم (يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا ً وقبائل لتعارفوا). فالتعارف أصدق تعبير للتواصل والحوار المتكافئ.


[email protected]