لم يكن يدور في خلد أحد أن يحل زمان يتجنى فيه بعضهم على الحق والصدق، ويحول الأبيض إلى أسود، والصدق إلى كذب، والمظلوم إلى ظالم، والحق إلى باطل، والضحية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية، يدين الثورة ويصفق لإرهاب الدولة. وأن يمر ذلك مرور الكرام عبر شاشات التلفزة على المجموع من البشر، دون أن يحركوا ساكنين ليحتجوا ويرفضوا ويصححوا.

المسلسل التلفزيوني التركي المدبلج إلى العربية والموسوم بـ quot;الأرض الطيبةquot; وهو اسم رواية شهيرة للروائية الأمريكية الراحلة quot;بيرل بيكquot; والتي تدور أحداثها في الصين أيام الثورة التي قادها quot;ماوتس تونغquot; ضد حكومة quot;الكومنتانغquot; التي كان يترأسها quot;تشان كاي شيكquot; وفيها قدمت الكاتبة صورة قاتمة غير حسنة للثورة الصينية التي قام بها ملايين الصينيين لتدحر فيما بعد quot;الكومنتانغquot;. يٌخيل لي من تشابه العنوان والأحداث في الرواية والمسلسل، أن المسلسل مقتبس من الرواية، مع غلو مقتصد للمسلسل فاق التصور للطعن بالثورة الكردية في شمال كردستان وهو مالا نجده لدى الروائية الأمريكية في نقدها للثوار الصينيين، التي تجنبت التطرف في نقدها.

ما يؤسف له، أن فضائية mbc التلفزيونية الموقرة، أخذت على عاتقها الترويج للمسلسل منذ شهور، وإلى الآن. عرضت quot;84quot; حلقة من جزئه الأول. وقبل أيام شرعت بتقديم الجزء الثاني منه. وقد يليه الثالث والرابع أيضاً، ويتبين من الحشد الكبير للممثلين فاستخدام امكانيات أخرى ضخمة من آليات وأثاث. الحجم الهائل من الأموال التي رصدت لإنتاج المسلسل في وقت يتضور فيه أكثرية الشعب التركي من الجوع ويطرق أفراده أبواب أوروبا وأمريكا بحثاً عن الخبز والعمل، وهرباً من طغيان الحكومة التركية، كل ذلك بهدف النيل من الحركة التحررية الكردية العادلة بقيادة حزب العمال الكردستاني في شمال كردستان وضد الدكتاتورية التركية.

ولا شك أن mbc وتحت ضغوط مالية مغرية تبنت عرض هذا المسلسل المسيء لقضية عادلة، قضية الشعب الكردي التي تحظى بدعم وتأييد الملايين من الكرد بل وأحرار العالم كافة. ومما لا ريب فيه، أن عجز الحكومة التركية من القضاء على الثورة التي يقودها حزب العمال الكردستاني PKK والتي تدخل في عام 2011 عامها السابع والعشرين. هو الذي دفعها إلى استخدام الفن، الفن الهابط جداً لمجابهة الثورة الكردية جنباً إلى جنب استخدامها للسلاح الناري ضدها.

ان مسلسل quot;الأرض الطيبةquot; يشذ عن القاعدة. إذا علمنا ان مضامين الألوان الثقافية غالباً ما تنتصر للإنسانية المعذبة وضد طغيان الحكومات الجائرة. وليس العكس كما فعل المسلسل للحط من المطاليب الكردية المشروعة في شمال كردستان. وإظهار أعضاء حزب العمال الكردستاني ومقاتلي جناحه العسكري quot;الكريلاquot; بمظهر الجلاد لا الضحية وإلصاق شتى الأفعال المشينة بهم والتي تليق أصلاً بالجيش التركي المحتل والجندرمة التركية السيء الصيت. يقيناً أن ثقافة عد الضحية جلاداً والجلاد ضحية، دخيل حتى على الثقافة التركية نفسها. هذه الثقافة التي ساندت الحق الكردي، على يد المفكر الكبير اسماعيل بيشكجي والروائي عزيز نسين والشاعر ناظم حكمت والروائي حائز جائزة نوبل أورهان باموك وغيرهم الذين أدانوا إرهاب الدولة التركية وطالبوا بالديمقراطية والحرية للأتراك وبإنصاف الشعب الكردي.

بعد إطلاق سراحه بسنوات، حاولت الدكتاتورية التركية تبييض وجهها البشع من خلال توجيه دعوة إلى المناضل الكبير quot;نيلسون مانديلاquot; لزيارة تركيا ومنحه جائزة quot;كمال أتاتوركquot; إلا أن quot;مانديلاquot; وتضامناً منه مع الشعب الكردي المظلوم والجريح رفض بإباء الزيارة والجائزة معاً. فاستحق بذلك احترام الأمة الكردية والناشطين من أجل الحرية في العالم أجمع. وما quot;الأرض الطيبةquot; التي تعرضها شاشة mbc في الأماسي بلا مسؤولية عن عمد أو غير عمد. إلا أن الفكر العنصري لأتاتورك ومن قبله سلاطين آل عثمان، ومن بعده، الحكام العلمانيون والاسلاميون الأتراك على حد سواء. وهذا الفكر لا يمت بصلة إلى الفكر الحر والانساني النير. وأنه لسابقة جد خطيرة في الحركة الثقافية. ظهور أعمال تلفزيونية تسيء إلى الثورة العادلة والثوار، سيما إذا علمنا أن الحركات التحررية للشعوب، ومن بينها الحركة التحررية لشعب شمال كردستان ترقى إلى مرتبة المقدسات، والقول نفسه ينسحب على قادتها وأحزابها وقواتها المسلحة، وللحركة التحررية الكردية ليس في شمال كردستان فقط إنما في عموم كردستان الكبرى، مكانة مرموقة في نفوس الكرد الذين يقدسون ثوارهم من البيشمركه والكريلا وشهداءهم الثوار ويتغنون بتضحياتهم البطولية من أجل حرية الشعب الكردي وكرامته.

هنا بودي أن أتوجه بهذا السؤال إلى mbc والمشرفين عليها، ماذا تقولون، لو قامت شركة فرنسية أو إيطالية تلفزيونية أو سينمائية، بإنتاج فلم أو مسلسلات كـ quot;الأرض الطيبةquot; وقدمت الثوار الجزائريين وقبلهم الثوار الليبيين، كقطاع طرق ولصوص وقتلة للنساء والأطفال وو.. الخ من أعمال مشينة كالتي تتهم بها quot;الأرض الطيبةquot; الثوار الكرد في شمال كردستان؟ هل تلوذون بالصمت أم تقيمون الدنيا ولا تقعدونها؟؟.

منذ عقود خلت، جرى تقييم الحركات الثورية التحررية للشعوب على أنها حلقات وأجزاء متصلة بعضها ببعض آخر. والحركة التحررية للشعب الكردستاني في شمال كردستان وكذلك الحركات التحررية الكردية الأخرى، تعتبر جزءاً من الحركة التحررية العالمية للشعوب المضطهدة والمغلوب على أمرها، وأن أية إساءة لأي منها، إساءة بحقها وبحق كل الحركات التحررية. لذا فان تشويه الحقائق والدوس عليها ومعاداة حركات التحرر الوطني بما فيها الحركة التحررية الكردية في شمال كردستان من شيم وثقافة العنصريين الظلاميين من أعداء الشعوب والحرية والديمقراطية، وليس من شيم وصناعة الفن الرفيع والفنانين العظام من الملتزمين بالقضايا العادلة للانسانية. وأن رسالة الفن الملتزم تتقاطع بقوة مع نهج وأهداف الحكومات الدكتاتورية الظالمة. أما محاربة الشعب الكردي وثواره البواسل، بالفن الهزيل الرخيص وما quot;الأرض الطيبةquot; إلا انموذج جيد وقوي لمثل هكذا فن منبوذ ومدان. فلن تلين إطلاقاً من عزم وتصميم الأحرار الكرد، سواء في تركيا أو أي مكان آخر على مواصلة كفاحهم من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية، كما ولن تنطلي مشاهد ولقطات quot;الأرض الطيبةquot; على المشاهد الذكي والواعي الذي يعرف أن الحق والحقيقة مع الثوار الكرد ونقيضهما مع الطغاة جلادي الشعب الكردي.

لقد بلغت عنصرية الحكام الترك مروجي quot;الأرض الطيبةquot; وما شاكلها حد منع الأطفال الكرد من التحدث بلغتهم الأم، بل واعتبار التحدث باللغة الكردية جريمة يعاقب عليها القانون. دع جانباً ما يخطط له النظام التركي من مشاريع جهنمية تفضي إلى شن حرب مياه مقبلة على شعوب سوريا والعراق بالأخص.

كل شيء بالمقلوب في quot;الأرض الطيبةquot; الأبيض فيها أسود، والضحية جلاد والحق باطل...الخ وهي من حيث المبدأ تكفير بالثورة والثوار الأحرار. فلو كان حزب العمال الكردستاني ومقاتلوه، مجرد عصابة تمتهن القتل والسرقة وقطع الطرق، لما تمكن كل هذه السنوات من الثبات بوجه القوة البرية الثانية لحلف الأطلسي، ولما كان يتمتع بتأييد وعطف الأمة الكردية. وأن ما يجري في تركيا الآن ومنذ سنوات، وفي بعض من جوانبه، يعد بحد ذاته تجريماً للحكومات التركية. إذ ماذا يعني الاستفتاء على تعديل الدستور وتقليم أظافر العسكر أو إشاعة الديمقراطية... ألا يعني هذا، أن الحكومات التركية كانت على طول الخط في خطأ وأن الثوار الكرد بالمقابل كانوا وما زالوا في صح وعلى حق؟.

على الأخوة المشرفين على mbc البحث عن المسلسلات الهادفة والرصينة، وهي لكثرتها في متناول اليد، وعرضها على المشاهدين، وليس استفزاز الكرد وهم شعب جريح ومظلوم.

وعلى الأخوة والأخوات من الفنانين الترك من الذين أدوا أدوارهم في quot;الأرض الطيبةquot; أن لا يكرروا هذا الخطأ الذي ارتكبوه، لأنه ينال من سمعتهم ومكانتهم ومن رسالة الفن بحد ذاتها، وستكشف الأيام كم كانوا هم و mbc على خطأ. إنهم أحرار فيما يعملون، إلا أن حريتهم في quot;الأرض الطيبةquot; اصطدمت بحرية أمة كبيرة ألا وهي الأمة الكردية. إن الفنانين الترك في مسلسلهم، إنما خدموا الدكتاتورية وإرهاب الدولة، في وقت كان حرياً بهم الامتناع عن ذلك ويحذوا حذو مفكريهم العظام الذين أتينا على ذكرهم في تأييدهم للكرد وقضيته العادلة وكفاحهم من أجل الديمقراطية والحرية لتركيا.

نعم، وكما قيل أن نور الشمس لا تحجب بالغربال. سيأتي اليوم الذي تهزم فيه القوى الظلامية ويزاح الستار عن جرائم الدولة التركية بحق الانسانية، وبحق الأرمن والكرد والعرب وشعوب أوروبا الشرقية، آنذاك لن تكفي العشرات من المسلسلات التلفزيونية لإدانة الظلم التركي لتلك الأقوام. يكفي القول، أن الحكومة التركية الحالية والتي سبقتها كذلك، ما زالت تمتنع عن تقديم اعتذار للأرمن الذين أباد العثمانيون من أجداد الحكام الأتراك الحاليين أكثر من مليون مواطن أرمني بريء وعشرات الآلاف من الكرد على يد العثمانيين والحكومات الجمهورية التركية وما زال مسلسل اضطهاد الكرد وإراقة دمائهم يتواصل.

على مشاهدي quot;الأرض الطيبةquot; أن يلتفتوا إلى هذا المسلسل أيضاً. وعلى المثقفين العرب والكرد كذلك أن لا ينسوا، بأن quot;الأرض الطيبةquot; غزو ثقافي تركي للثقافتين العربية والكردية وغيرهما من الثقافات، لا يقل خطورة عن حرب المياه التركية المقبلة على شعوب المنطقة والنهج الدكتاتوري للحكام الأتراك.


[email protected]