ترددت قبل عدة أيام شائعات قوية عن انقلاب عسكري في العراق، وانتشرت تلك الشائعات كالنار في الهشيم لا في بغداد العاصمة فحسب بل ربما على مساحة واسعة من البلاد ومدنه وأريافه بما جعل الأهالي يترقبون أحداثا مهمة اقرب ما تكون الى احتمال عودة مؤسسات الماضي القريب وإرهاصاته مثل البيان رقم واحد ومجلس قيادة الثورة وقراراته وأحكام الإعدامات والسجن والملاحقة، وإثر ذلك دارت سيناريوهات مثيرة للدهشة تارة وتارة أخرى للضحك والازدراء، ونسجت ذاكرة الأهالي والمقاهي العديد من الروايات خلال ساعات فقط حول شكل الانقلاب ومن يستهدف وماذا ستكون النتائج والى آخر تلك الايهامات.

وعودة الى الماضي وعبر أكثر من نصف قرن تكرست ثقافة الانقلابات في العراق الى درجة إن تأخيرا في نشرة الأخبار الرئيسية كانت توحي بوجود انقلاب أو محاولته، ونتذكر جميعا منذ مطلع الستينات من القرن الماضي تلك الدقائق الحرجة التي تسبق ظهور المذيع في نشرة الأخبار الرئيسية سواء على الراديو أو في التلفزيون وقد تأخر عن موعده لأي سبب كان، وقد فعل الخطاب الاعلامي الحماسي والمتشنج فعلته في تكريس تلك الثقافة والهواجس، حيث ترتبط الذاكرة دوما بأحداث صبيحة الرابع عشر من تموز 1958م والانقلاب الأول وبياناته الحماسية وصيحات الله اكبر التي جاءت في سياق نشيد بنفس العنوان، كان يصدح ليل نهار أول أيام الانقلاب، وكاد أن يصبح نشيدا وطنيا لكل الانقلابات التالية، وكأنما قد اتفق المنقلبون جميعا على كلمة السر في انقلابهم على نفس ذلك النشيد.
لقد ساهمت وسائل الاعلام المرئية والمسموعة في تكريس واشاعة هذه الثقافة والتوجسات في الذاكرة العراقية عموما، وربما يتذكر الكثير تلك اللغة الاعلامية المستخدمة في مطلع الستينات وما تلاها من عقود، وعلى سبيل المثال وليس الحصر حينما استمرت وسائل الاعلام المرئية والمسموعة تعلن طيلة الصباح عن ان الزعيم سيعلن امرا هاما بعد قليل، ولعدة ساعات بقت الذاكرة العراقية تنسج العديد من السيناريوهات حول الزعيم والثورة واحتمالات الانقلاب الداخلي او الصراعات، المهم يخرج الزعيم على نشرة اخبار الثانية والنصف ليعلن ان الخبراء العراقيين قد نجحوا في استخراج السكر من القصب المنتج محليا!؟

ورغم إن محاولات الانقلاب الأولى ظهرت بوادرها قبل الرابع عشر من تموز 58 إلا إن المنقلبون الأوائل كانوا أولئك الذين نجحوا في الوصول الى دفة الحكم واعتقدوا إن إخضاع زملائهم لقسم غليظ أمام الزعيم ومجلس السيادة والشعب سيمنعهم من الخيانة أو الانقلاب، إلا إن ما حصل في صبيحة الثامن من شباط أكد انه ليس هناك أي رادع لطموح السلطة والمال في غياب آليات توزيع السلطة وتشتيتها ضمن قانون لتداولها سلميا، سواء كان القسم على القرآن الكريم أو بالشرف الشخصي أو التعهد الخطي!، وإن عملية إزاحة الرئيس والجلوس على كرسيه لا تحتاج أكثر من بضعة ملايين من الدولارات وعدة عربات من قطار ذي قاطرة عظمى (!؟) وجنرال عسكري مع مجموعة مغامرة تستطيع اختراق حواجز الحرس الجمهوري والدخول الى مقر القصر الرئاسي أو مكتب الزعيم كما حصل في انقلاب شباط، لعدم وجود أي مؤسسات حاكمة حقيقية إلا شخص الرئيس القائد الذي يعلو على كل شيء في الدولة ويكثف كل السلطات والصلاحيات والأموال في شخصه المفدى دوما، وبالتأكيد من ينجح في الوصول الى غرفة نوم الرئيس أو مكتبه، فقد اختزل كل مؤسسات الحكم والقيادة وأصبح برصاصة واحدة ينهي تلك الحقبة المتمثلة بشخص الرئيس أو الملك الضحية، وما يتصل بهم من وزراء أو جنرالات أو ملحقين لمؤسسة الرئيس القائد.

وهكذا استمر النظام السياسي العراقي بانقلاباته على بعضه حتى أيام الدكتاتور صدام حسين الذي تميز في اختلاق وصناعة ونشر دعايات او فبركات انقلابية للتخلص من معارضيه ومنافسيه كما حصل مع مجموعة عايش- عبدالخالق السامرائي، وبعدها مع اللواء حامد احمد الورد والدكتور راجي التكريتي، وغيرها الكثير من السيناريوهات المعدة مخابراتيا، اضافة الى ما واجهه فعلا من محاولات انقلابية لأزاحته من على ذلك الكرسي الساحر هو وسلفه السابق احمد حسن البكر الذي نجح صدام بإرساله الى العالم الآخر بانقلاب بكائي دموي شهده حزب البعث وقياداته في تلك القاعة التي شهدت إصدار أحكام صدام حسين بإعدام ما يقرب من خمسين مسؤولا بعثيا رفيعا بمحاكمات عجيبة وغريبة لا تخضع لأي قياس قانوني أو أخلاقي، وأتذكر هنا واحدا من اضرف التعليقات على ذلك الانقلاب في تموز 79 من قبل مواطن عادي حينما قال معلقا:
أنهم ( أي البعثيون ) إن لم يجدوا أحدا ينقلبون عليه فإنهم ينقلبون على أنفسهم!؟

لقد كانت اولى دعائم أي انقلاب ومبررات نجاحه وانتصار المنقلبين هو عدم تعدد الأهداف والمواقع ومراكز القرار، بمعنى أن نجاح الانقلاب مرهون بتكثيف السلطات عموما بشخص الرئيس أو هيئة محددة على شاكلة مجلس قيادة الثورة مثلا، وهكذا ترى أن أي محاولة انقلاب كان يكتب لها النجاح بمجرد السيطرة على قصر الرئاسة او محاصرة الرئيس واعتقاله او قتله، اما اليوم وبعد تلك التجربة المريرة من تاريخ الانقلابات والتبادل الدموي للسلطة، فقد تغيرت الامور والياتها بما لا يمكن فسح مجال لأي مغامرة مهما كانت للوصول الى السلطة وحكم البلاد من خلال البيان رقم واحد او مجلس قيادة الثورة؟

فلم تعد هناك سلطة واحدة مكثفة بشخص اوحد مطلق الصلاحيات او هيئة من ثلة من الرجال تقود مقدرات البلاد وسلطاته وتعطل القانون والقضاء لمجرد محاصرتهم للقصر الجمهوري او وزارة الدفاع او ما الى ذلك، لقد تم فصل السلطات الثلاث عن بعضها تماما، ولم يعد لدينا رئيسا اوحدا مطلق الحكم والقرار، ولا حكومة تتمتع بالسلطة المطلقة دونما رقيب او حسيب، كما لم يعد هناك رئيسا يتمتع بصلاحيات قاض او محكمة ليعطل مهام السلطة القضائية ويمارس دورها، والاهم من ذلك كله لم يعد الجيش تلك المؤسسة البوليسية المرعبة باسلحتها وامكانياتها التي تستخدم ضد الاهالي والمعارضين كما كان يحصل طيلة العقود الماضية من انقلابات أو حروب يشنها على السكان في المدن والاهوار والجبال.

ان توزيع وتوسيع صلاحيات الاقاليم والمحافظات ونشر مراكز القرار على مساحة البلاد ومكوناتها ومؤسساتها المنتخبة ضمن نهج ديمقراطي فدرالي متعدد هو درع البلاد وحصانتها ضد تلك الثقافة الانقلابية وسلوكياتها التي أضاعت فرصا كثيرة للتطور والازدهار وحملت البلاد والعباد خسائر فادحة في الاموال والارواح.