منذ الحادي عشر من سبتمبر (2001) وأمريكا تخطب ود الباكستان، وتعيد وصل ما انقطع من علاقات حب بين البلدين، بعد أن نالت مرادها، إثر خروج القوات السوفيتية من أفغانستان. وهذه المرة ترجو مساعدتها في القضاء على ألد أعدائها، أولئك الذين استخدموا طائراتها فدمروها، ودمروا منشآتها، وقتلوا في عقر دارها أكثر من ثلاثة آلاف من مواطنيها. فاستطاعت بفضلها أن تغزو أفغانستان، وتزيل حكومة الطالبان والقاعدة، وتنشر على الأرض مئات الآلاف من جنودها، وتقيم حكومة موالية لها.
قبل أقل من شهرين كانت ضحكات كل من وزيري خارجية البلدين (الأمريكية والباكستانية) تملأ- في العاصمة الباكستانية- أرجاء قاعة الاجتماعات التي تبادلا فيها شرب الأنخاب. وخيل للجميع حينها أن علاقات البلدين لم تعد تشوبها شائبة، بل أضحت في أحسن أحوالها! فما الذي حدث؟ وما الذي تم اكتشافه خلال التحقيق مع (فيصل شاه زاد) حتى غضبت كل هذا الغضب وزيرة الخارجية الأمريكية، ووجهت تحذيرا شديد اللهجة إلى الباكستان، لم يسبق له مثيل في تاريخ العلاقات بين البلدين؟ وهددتها بعواقب وخيمة للغاية إن قادت خيوط أي عملية أخرى مماثلة مستقبلا إلى الباكستان.
وبدلا من أن تثور ثائرة الباكستان وتستنكر وتغضب وترفض تهديد الوزيرة الأمريكية، بدلا من ذلك هادنت، وحاولت امتصاص الغضب الأمريكي، وأعلنت على لسان رئيس وزرائها وأقوى سلطة فيها، أنها آسفة شديد الأسف لما حدث، وما حاول القيام به مواطنها الحاصل على الجنسية الأمريكية (فيصل زاد شاه).
لقد سبق واعتقلت أمريكا على خلفية هكذا أعمال الكثير من الأمريكيين الذين يعودون بأصولهم إلى بلدان إسلامية، وحاولوا أو كانوا يعدون العدة للقيام بعمليات إرهابية على الأرض الأمريكية. لكنها لم توجه أي تهديد- كما فعلت مع الباكستان- إلى البلدان التي كان أولئك المعتقلون ينتمون إليها!
في نهاية العام الماضي- عشية عيد الميلاد - اعتقلت أمريكا النيجيري (عمر الفارق) الذي حاول تفجير طائرة بركابها فوق الأراضي الأمريكية، مما كان سينجم عنه مقتل المئات من الأمريكيين لولا تدخل الركاب والقدر. ومع ذلك لم تهدد أمريكا لا نيجيريا ولا اليمن التي ينتمي إليها ويقيم على أرضها الداعية الإسلامي (أنور العولقي) المرتبط بتنظيم القاعدة، والذي تتلمذ (الفاروق) على يديه، ووجهه بالتعاون مع التنظيم للقيام بتلك العملية.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأمريكي من أصل فلسطيني، الطبيب العسكري (نضال حسن) الذي قام بعد النيجري بفترة وجيزة، قام على خلفية إرهابية، وبتحريض- كما دل التحقيق- من الداعية السالف الذكر (العولقي) بقتل ثلاثة عشر عسكريا من زملاءه، وإصابة العشرات غيرهم بإصابات متفاوتة الخطورة، ومع ذلك أيضا لم تهدد أمريكا اليمن- كما فعلت مع الباكستان- بعواقب وخيمة بل هددت فقط (العولقي) الموجود في أراضيها. فلماذا إذن هذا التباين في المعاملة؟ وما الذي اكتشفته أمريكا خلال التحقيق مع فيصل شاه زاد؟
تقول الأنباء إن المتهم (فيصل شاه زاد) هو ابن مسؤول عسكري باكستاني سابق، وإنه زار أواخر العام الماضي الباكستان، وأمضى فيها بضعة أشهر، وترك زوجته وابنه هناك. وإنه اعترف بزيارة إقليم (وزير ستان) الذي تسيطر عليه حركة طالبان الباكستانية، وتدرب هناك، والتقى زعيمها (حكيم الله مسعود) الذي صرح قبل عدة أيام من المحاولة الفاشلة بأنه سيضرب أمريكا في عقر دارها. وإذا صحت هذه الأنباء فمن المسؤول المخابراتي الذي سّهل انتقال (فيصل) إلى (وزير ستان) المحاصرة عسكريا، ودبر له هذا اللقاء مع زعيمها المطلوب أمريكيا؟ وهو كقائد مخابراتي يعلم علم اليقين أن هكذا لقاء سيتم فيه التخطيط لعمل إرهابي على الأراضي الأمريكية!
لم يكن الفتى انتحاريا، ولم يكن يهدف لإيقاع أكبر عدد من الضحايا، وإلا لكان اختار الوقت الذي يقتل فيه أكبر عدد من الناس، وفجر السيارة وهو داخلها، لكن خوفه على حياته دعاه للمغادرة وترك السيارة دون أن يفجرها عن بعد، أو يحسن توقيت عدادها. كما أن متفجراته لم تكن من النوع الشديد الخطورة، بل مفرقعات أعياد وألعاب نارية، وهو الشاب المتعلم الذي تدرب على صنع المتفجرات. ولعله تقصد ذلك، أو لعله استيقظ وندم في اللحظة الأخيرة وشعر بفضل أمريكا عليه، إذ أعطنه جنسيتها، وشغلته، وأمنت له حياة جديدة جيدة. وهذا ما يفسر تعاونه في التحقيق وتخليه عن حقه في توكيل محام له. لكنه بلا شك كان واقعا تحت وطأة عهده لطالبان التي يخشاها ويخشى على أهله منها فيما لو خان الوعد والعهد.
لقد سبق وفي مناسبات عديدة أن اتهمت الولايات المتحدة ضباطا في المخابرات العسكرية الباكستانية بمساعدة طالبان الأفغانية والباكستانية، والتستر على قادتها، وتأمين أماكن آمنة لهم، وتيسير تنقلاتهم، لكن الأمر لم يصل أبدا إلى درجة تهديد دولة الباكستان علانية بعواقب وخيمة بسبب تصرفات أولئك الضباط الذين اتهمتهم. أما أن تصل الموسى إلى ذقن أمريكا، وفي غرفة نومها، بعلم قيادات عسكرية باكستانية فذاك أمر خطير جدا بالنسبة لأمريكا يستدعي إعادة النظر في دعم القيادات السياسية، والتهديد المعلن والوعيد الشديد.
[email protected]