عرفت المسيحية الاضطهاد واختبرته وعايشته منذ ميلادها قبل ألفي عاماً. حاولت قوى الشر عبر هذه القرون الطويلة القضاء على المسيحيين أينما وجدوا ولكنها لم تنجح أبداً. كان النصيب الأكبر من الاضطهاد الذي نالته المسيحية في منطقة الشرق الأوسط حيث ظهرت وترعرعت بالعكس لرغبة القوى المعادية لها. وقد ساعد الاضطهاد المسيحية كثيراً في الثبات على العقيدة والتمسك بالإيمان، حتى أن المسيحية أصبحت تعرف بأنها تبلغ ذروة قوتها في أوقات الشدة والضيق والأزمات. نال المسيحيون الشرقيون نصيباً كبيراً من الاضطهاد طوال القرون العشرين الماضية حيث تم قتلهم والتنكيل بهم وتشريدهم وقطع أرزاقهم، فضلاً عن حرمانهم من حقوقهم وتجريدهم من إنسانيتهم وفرض الجزية الظالمة عليهم منعهم من بناء الكنائس وإجبارهم على إنكار المسيحية إضافة إلى مهاجمة عقيدتهم والتشكيك فيها. ورغم كل أنواع البشاعات هذه وغيرها إلا أن أحداً لم ينجح في القضاء على المسيحية أو الوجود المسيحي في أية بقعة من بقاع المسكونة. ورغم الفشل الزريع الذي أصاب محاولات أعداء المسيحية إلا أنهم لم يتوقفوا عن اختراع طرق وأدوات ووسائل لمحاربة المسيحية وأرهاب الكنيسة. وفي هذا الإطار جاء حكم المحكمة الإدارية العليا المصرية مؤخراً بإلزام الكنيسة بتزويج المطلقين من أبنائها.
لم يأت حكم المحكمة الإدارية العليا ليحقق عدالة غائبة أو ليمنح إنساناً حقاً ضائعاً، ولكن المحكمة وقاضيها كانت لهما أهدافهما الخاصة التي رغبا في تحقيقها عن طريق الحكم. هدفت المحكمة من حكمها بإلزام الكنيسة المصرية بإصدار تراخيص زواج للمطلقين إلى أولاً: هدم مبدأ مهم من المبادئ التي تعتمدها المسيحية منذ نشأتها. ثانياً: إزلال الكنيسة عبر إجبارها على مخالفة تعاليم السيد المسيح الواضحة بشأن وحدانية الزواج والامتناع عن الطلاق. ثالثاً: إغراء المسيحيين بالزواج لمخالفة تعاليم المسيحية. رابعاً: تطبيق الشريعة الإسلامية على المسيحيين في مسائل الأحوال الشخصية ومن ثم التضييق عليهم وإنكار حقهم في نطبيق ما يتلائم ويتوافق مع تعاليم دينهم. خامساً: فتح الباب أمام أحكام مستقبلية تتناول مسائل عقيدية مسيحية وتتعارض مع التعاليم المنصوص عليها في الكتاب المقدس.
تعود مسألة رفض الكنيسة لفكرة الزواج الثاني إلى نصوص كتابية عديدة واضحة ولا لبس فيها. من هذه النصوص وما ورد على لسان السيد المسيح في إنجيل متى الأصحاح الخامس العدد الثاني والثلاثينquot;أما أنا فأقول لكم: كل من طلق زوجته لغير علة الزنى، فهو يجعلها ترتكب الزنى. ومن تزوج بمطلقة، فهو يرتكب الزنى.quot; المسألة إذاً واضحة ولا تحتاج إلي نقاش. ومن يتبحر في المسيحية يدرك أن فكرة الزواج الواحد في المسيحية تعود إلى عدة أسباب من أهمها اولاً: الرغبة في السمو بالجسد الإنساني إلى أعلى المراحل والدرجات وهي الرغبة التي عبر عنا السيد المسيح صراحة ومن دون مواربة حين قال quot;كونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم السماوي هو كامل (متى 5 : 48) وقال الرسول بولس quot;فإنكم مازلتم جسديين. فمادام بينكم حسد وخصام (وانقسام)، أفلا تكونون جسديين وتسلكون وقفاً للبشر؟quot; (1 كورنثوس 3 : 3) ثانياً: المحبة الإلهية التي يجب أن تربط أبناء المسيحية المؤمنين بعضهم ببعض والتي تجعل منهم وحدة واحدة يستحيل معها حدوث انقسامات quot;مجتهدين أن تحافظوا على وحدة الروح برابطة الوفاق. فإنما هناك جسد واحد وروح واحدquot; (أفسس 4 : 3)، ولذا يصر الكتاب المقدس على ضرورة زواج المؤمن من مؤمنة quot;لا تدخلوا مع غير المؤمنين تحت نير واحدquot; (2 كورنثوس 6 : 14) ثالثاً: يشبه الكتاب المقدس الاتحاد الروحي الذي يربط بين الزوج والزوجة بالاتحاد الروحي بين السيد المسيح والكنيسة quot;فإن الزوج هو رأس الزوجة كما أن المسيح أيضاً هو رأس الكنيسةquot; (أفسس 5 : 23). ولأن المسيح والكنيسة لا ينفصلان أبداً فبالمثل الزوج والزوجة لا يمكن أن ينفصلا.
تسببت مسألة الزواج الثاني في المسيحية في إحداث نوبات من الجدل الواسع عبر تاريخ المسيحية الطويل، وكان مسيحيون غير مؤمنين أو مسيحيون بالوراثة لا بالإيمان شاءت ظروفهم أن يكونوا أزواج تعساء لم ينعموا بحياة زوجية سعيدة هم دوماً من أثاروا المسألة. وصمدت الكنيسة أمام كل الضغوط التي تعرضت لها لإباحة الزواج الثاني. وربما كان صراع الملك هنري السادس عشر (1491-1547) ملك بريطانيا العظمى مع الكنيسة الكاثوليكية للحصول على ترخيص بإلغاء زواجه الأول والحصول على ترخيص بالزواج الثاني من أهم المعارك التي خاضتها الكنيسة للوقف ضد مسألة السماح بالزواج. وقد أضطر الملك هنري السادس عشر للانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية وتشكيل كنيسة خاصة في انجلترا حتى يتمكن الزواج من آن بوليين بعدما رفض البابا كليمنت الخامس عشر بابا روما عندئذ رفضاً باتاً فكرة منحه ترخيصاً بإلغاء زواجه الأول من الملكة كاثرين.
لم يكن موقف الكنيسة المصرية بقيادة البابا شنوده الثالث الرافض لفكرة التصريح بالزواج الثاني غريباً أو مفاجئاً. فما تتمسك به الكنيسة وما يصمم عليه البابا هو من صميم العقيدة المسيحية التي لم يحد عنها المؤمنون الحقيقيون على طوال القرون العشرين الماضية. ربما كانت هناك أخطاء ارتكبت في الماضي في غفلة من الضمير، وربما كانت هناك غفوات سقط فيها البعض في غياب الوعي السليم، ولكن الثابت في جميع الكنائس المستقيمة هو رفض الزواج الثاني إلا لعلة الزنا كما أوصى السيد المسيح. الغريب والمفاجئ هنا كان تدخل المحكمة في ما لا تختص به وإصدارها حكماً نهائياً يتعارض مع الإيمان المسيحي السليم. وقد قيل أن المحكمة استندت في حكمها على قرار للمجلس الملي العام، الذي يدير شئون الطائفة الأرثوذكسية في مصر، صدر عام 1938 ويفتح بموجبه الباب أمام الزواج الثاني لأسباب مختلفة. ولكن البابا فند أسس القرار الذي مضت عليه ما يزيد على السبعين سنة مشدداً على أن المجلس الملي عندئذ كان منفصلاً عن الكنيسة ولم يعبر عنها، ومذكراً بأنه نجح في تعديل القرار بصورة رسمية في عام 2008.
المثير أن العديد من ردود الأفعال الصادرة عن المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في مصر استخفت بمشاعر المسيحيين مما يعكس عدم استيعاب الكثيرين لمدى خطورة حكم محكمة القضاء الإداري. وقد خرج أحد رؤساء المحاكم السابقين في مصر على شاشات التلفزيون ليؤكد على ضرورة تنفيذ قرار المحكمة معلناً أن مصر حذت خطوات سبقتها لها دول العالم المتحضر في اعتبار الكنيسة هيئة عامة تخضع خضوعاً كاملاً للقانون ومحذراً من عقوبات قد تنزل بحق رجال الكنيسة في حال لم ينفذ القرار. وقد تجاهل رئيس المجكمة السابق أن أياً من محاكم الدول المتحضرة لم تتدخل في الشئون العقيدية للكنيسة، وأن الكنيسة الكاثوليكية في مختلف أركان العالم ترفض رفضاً باتاً التصريح بالزواج الثاني من دون أن يجبرها قانون أو يتطفل عليها قرار محكمة لإثنائها عن عقيدتها وإيمانها.
القضية جد خطيرة وهي كذلك ليس فقط لأنها تجبر المسيحيين على مخالفة تعاليم دينهم ولكنها خطيرة لأنها دليل جديد على مدى توغل جماعات التطرف في المجتمع المصري ومؤسساته بما فيها المؤسسة القضائية التي ينظر إليها على أنها العدالة. وحكم المحكمة القضاء الإداري هو حلقة من سلسلة أحكام صدرت في السنوات تنتقص من حقوق المسيحيين. فقد صدرت في السابق أحكام جائرة تمنع الاعتراف بالمتحولين أو العائدين للمسيحية، وصدرت أحكام تجبر أطفال مسيحيين على اعتناق الإسلام، وها هو حكم محكمة القضاء الإداري يجبر المسيحيين على الزواج الثاني المخالف لتعاليم الكتاب المقدس. ولا يعلم أحد ماذا ينتظر المسيحيين من أحكام ظالمة في الغد.
ومن المؤكد أنها لن تنتهي بالحكم الذي أصدره قاض محكمة القضاء الإداري لأن المسيحيين لن يتراجعوا خطوة واحدة عن تنفيذ تعاليم السيد المسيح. وقد أحسن البابا شنوده حين جلس في مؤتمره الصحفي للتأكيد على موقف الكنيسة من الزواج الثاني تحت الآيتين الكتابيتين اللتين تقولان quot;ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناسquot; وquot;السماء والأرض تزولان ولكن كلمة واحدة من كلامي لا تزولquot; لأن البابا أوضح للجميع تمسكه الثابت بتنفيذ التعاليم المسيحية. الخروج من الطريق المسدود الذي وضع فيه قاضي محكمة القضاء الإداري كل المصريين يبدو أنه سيتطلب وقتاً وربما تدخلاً غير مسبوق من قبل المؤسسة السياسية لوقف العمل بالحكم. فتنفيذ الحكم عمل مستحيل، وتدخل المؤسسة السياسية لإلغاء حكم قضائي سيبدو غير مستحب من قبل الكثيرين. وربما كان الحل الوحيد، إذا أراد النظام المصري الحاكم، هو إقرار قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين الذي قال البابا شنوده أن الدولة تحتفظ به في أدراجها منذ عام 1980، وهو القانون الذي سيمكن الكنيسة من الإمساك بخيوط الأمور في مسائل الزواج والطلاق.
التعليقات