بعض الناس تبدوا فكرة غيابهم غير محتملة أو ممكنة رغم الإيمان العميق بقضاء الله وقدره ورغم الوعي واليقين الذي لا يتطرق إليه الشك بحتمية موت كل حي، quot; كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام quot; كمال قال الخالق جَلَّ وعلا.

ربما لأنهم ولكثرة ما لعبوا في حياتنا من أدوار مؤثرة حتى صاروا جزءاً من حياتنا اليومية نصادفهم في كل مفاصل قضايانا وهمومنا موجودون، وفي تضاريس مشاغلنا، وإلا هل غاب غازي عبدالرحمن القصيبي يوماً؟.

قمراً كان في حياتنا لم يغب يوماً يتابع الناس جولاته التفقدية الفجائية في مرافق الوزارات التي أوكلت إليه مسؤوليتها، خاصةً تلك المرافق التي تقدم خدماتها للمواطنين والمقيمين، كما تابعوا نشاطاته المتنوعة سفيراً للمملكة في الخارج حيث أضاف بمخيلة الفنان فيه، وظائف وأبعاداً جديده لمفهوم quot; السفير quot; ووظيفته، وكيفية تمثيله لبلده.
وحين يغيب شياً عن المسؤوليات الرسمية يفجر الساحات والمنابر قصائد وروايات وفكراً ومقالات وأحاديث، ليبرز وجهاً آخر من أوجه فعالياته المتنوعة حيث تجاوزت مؤلفاته عشرون كتاباً.

وخلال علاقتي معه، والتي كانت حواراً متواصلاً لم ينقطع يوماً، استطعت أن أكتشف بأن القصيبي كان قارئاً نهماً، وأنه كان يقيم حواراً بينه وبين عقل الكاتب وكثيراً ما أشار إلى مواقع بعينها في كتاباته غالباً ما تغيب عني أبعاداً لها غير مرئية مما يدلك أنه لم يكن يكتفي بسطور ما يقرأ، بل ويقرأ ما بين السطور.

وحين أهداني كتابه quot;المواسمquot; اقشعر بدني وأنا أطالعه كتبت عن الكتاب حينها، ولكن قلت له هاتفياً: لقد أفزعتني بكل هذا الحزن الذي سال من قلمك !، والآن أستطيع أن أقول ما لم أجرؤ على قوله وقتها له، أن من يقرأ هذه المواسم وهي آخر ما كتبه فيما أظن يشعر بأن الراحل لم يكن يسترجع ذكرا أحبائه الذين رحلوا، بقدر ما كان ينعي نفسه، لقد أحسست بأن القصيبي قد استشعر دبيب خطوات الموت فلجأ إلى ركن قصي داخل نفسه ناعياً من أحبهم ونابشاً قبور تذكاراتهم في قلبه بأسى، وكأنه كان يعتذر لهم على تأخره عنهم.
ولكنني عندما كتبت وتحادثت عن الكتاب معه لم أقل له ذلك، وان لمحت تلميحاً ما أظنه كان ليغيب عن فطنة رجل بذكاء أستاذنا الراحل.
ألا رحم الله القصيبي بقدر ما أعطى وبذل.. وتقبله قبولاً حسناً.. إنه سميعاً مجيب.


أكاديمي وكاتب سعودي
WWW.BINSABAAN.COM