إذا كانت الأشياء السارة تحدث للأخيار، على رأي المثل، فان من الصعب ان نفهم لماذا تُغدق على رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير وظائف ذات رواتب دسمة ومواقع رفيعة وجوائز تقديرية. بالطبع لكل فرد فكرته الخاصة عمن يُعتبر شخصا خيِّرا. ولكن الغالبية سيتفقون على ان الزعيم الذي تلاعب بالحقيقة لقيادة بلده الى حرب ازهقت ارواح مليون رجل وامرأة وطفل لا يمكن ان يعتبر انسانا quot;خيِّراquot; والأنكى من ذلك ان بلير يصر على انه سيتخذ القرار نفسه مرة اخرى بل انه يمتنع حتى عن الاعتذار عما يعده الجميع خطأ فادحا في التقدير أو خرقا اجراميا للقانون الدولي.

ان جورج بوش شريك بلير، هو الآخر ليس من الشخصيات المفضلة عندي ولكنه على الأقل توارى عن الانظار منذ انتهاء ولايته. وهو لا يقدم خدماته مستشارا للشركات متعددة الجنسيات مقابل أجر، ولا يطلب ثروة صغيرة مقابل كلمات يلقيها بعد مآدب العشاء أو يطير حول العالم لتوقيع نسخ من مذكراته. وفي الذكرى السنوية الأخيرة لاعتداءات 11 ايلول/سبتمبر القت لورا بوش كلمة في حفل تكريمي فيما اكتفى زوجها ببيان من اربعة اسطر. من الواضح ان ايام تفاديه الأحذية الطائرة قد انتهت.

السيد بلير من الجهة الأخرى ينجح في تفادي منتقديه بالضحك مغازلا الجمهور الاميركي باخلاصه الكاذب الذي يدعي الصوابية ويده على قلبه متظاهرا بصدق ما يقول، وبسحره الطبيعي ومهارته على الاستعراض السياسي، التي كلها انتهى تاريخ صلاحيتها في بلده نفسه. ففي لندن تعين الغاء حفلات وفعاليات أخرى لتوقيع كتابه بعدما تحداه محتجون رشقوه بالبيض. بل ان امرأة حاولت حتى اعتقاله بصفتها مواطنة تساعد الشرطة ولكن افراد الشرطة اقتادوها بعيدا عن المكان. أنا لا ارضى بمثل هذا السلوك غير اني اتعاطف تماما مع غضب المتظاهرين.

ولكن لا بد من الاعتراف بأن رجل ذكي. فان سيرة حياته quot;رحلةquot; وصفتها صحيفة بريطانية بأنها رسالة حب الى جورج بوش تنفد من رفوف المكتبات بسرعة لأنه كان شاطرا بما فيه الكفاية لانقاذ ما يمكن ان يبديه القادة من ممانعة اخلاقية إزء صب النقود في حسابه المصرفي الشخصي باعلانه ان حصته من ريع الكتاب ستذهب الى مركز اعادة تأهيل العسكريين المصابين. وأخذت كتبه تظهر في الأقسام المخصصة لكتب الجريمة أو الخيال في المكتبات عاكسة الغضب الذي يشعر به الرأي العام البريطاني.
القصة تختلف تماما في الولايات المتحدة حيث نال بلير سمعة تقرب من سمعة البطل الخارق لوقوفه جنبا الى جنب مع الاميركيين بعد 11 ايلول/سبتمبر وتحمسه للمشاركة في حربي بوش اللتين يعارضهما غالبية البريطانيين بشدة.

وإذا كان بلير مؤهلا لتولي الرئاسة بحكم الجنسية ومكان الميلاد فليس لدي شك في انه سينتصر على جميع منافسيه الى المكتب البيضاوي. ولكن في بلده ذاته فان لدى كثيرين احساسا بتعرضهم الى خيانة بعدما داس عليهم الرجل الذي ائتمنوه على مصالحهم فأصبح أمعة رئيس اميركي مطعون به فكريا، يجيب حين يناديه quot;أنت يا بليرquot;.
بالنسبة لاولئك الذين يعتقدون ان مقعدا ينبغي ان يُحجز لبلير في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، كان من بواعث الصدمة ان يروا الرئيس السابق بيل كلنتون يمنح صديقه القديم بلير وسام الحرية الرفيع مع 100 الف دولار quot;اعترافا بالتزامه الثابت بحل النزاعاتquot; والثناء عليه بسبب قيادته وتفانيه من اجل حل النزاعات. وعندي فان هذه مزحة سمجة نظرا الى ان بلير اشعل من النزاعات اكثر بكثير مما ساعد في حله.

ولكن الأمر ليس مزحة. فان الاميركيين يعتقدون حقا ان هذه الشخصية المتملقة الانتهازية هي حقا quot;مستر رائعquot;. ففي 13 كانون الثاني/يناير 2009 نال بلير وسام الحربة الرئاسي من جورج بوش وفي عام 2003 مُنح وسام الشرف الذهبي من الكونغرس اعترافا بـquot;موقفه الثابت ضد الشرquot;، ولكن الوسام ما زال ينتظر مجيء صاحبه لأخذه.

عندما غادر بلير مقر رئاسة الحكومة في 10 داوننغ ستريت في 27 حزيران/يونيو 2007 كانت نجومه تسطع في سماء الحظ. فهو تنحى عندما كانت الأوضاع لم تزل جيدة قبل ان تسلط الأزمة الاقتصادية اضواء كاشفة على سياسات حكومته المسرفة في التبذير ومديونيتها المالية. وتُركت للمسكين غوردن براون، وهو من الأخيار رغم ثقل دمه الاجتماعي، مهمة ترقيع الوضع، ثم طعنه صاحبه القديم في سيرته الذاتية.

بعد ذلك عُين بلير، الذي اصبح ذائع الصيت لقدرته على الافلات من الملاحقة عما يرتكبه، مبعوث اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط تضم الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي مهمته تعزيز الاقتصاد الفلسطيني وبناء المؤسسات الفلسطينية. وهي مهمة أبعد من ان يكون بلير الرجل المناسب لها وهو الذي يعترف بكونه صديق اسرائيل الذي لا يني يدافع عن الدولة العبرية في كل مناسبة ويقيم علاقات حميمة مع اللوبي الموالي لاسرائيل، لجنة الشؤون العامة الاميركية الاسرائيلية quot;ايباكquot;. بل مر وقت رشح بلير نفسه على رئاسة الاتحاد الاوروبي. ويا لها من فضيحة لو قُدر له ذلك.

منذ ذلك الحين استمر حظ بلير يبتسم له. وتفيد تقارير ان مصالحه التجارية ومراكزه في الشركات المختلفة زادت ثروته الشخصية التي تقدر الآن بنحو 20 مليون جنيه استرليني. وهو لديه اصدقاء واصحاب في مواقع عليا وبيوت عديدة وفرقة حماية خاصة على حساب دافع الضرائب البريطاني، ويستطيع ان يتوقع حفاوة الاستقبال اينما يحل، ما عدا بريطانيا وجمهورية ايرلندا.

خلال مقابلة أُجريت مؤخرا معه سُئل بلير إن كان سيفكر ذات يوم في العودة الى السياسة البريطانية فقال انه يخشى ان تكون السياسة البريطانية نفضت يدها منه على الأرجح. وهو مصيب في ذلك ولكن لماذا يكترث حين تكون القوة العظمى تتمسح بأذياله؟

لن يمثل بلير ابدا امام محكمة قانونية ولكن الوقت حان لأن تستدعيه محكمة الرأي العام الى المثول امامها. ورغم كل ماله واوسمته وشعبيته بين الاميركيين، لا يسعني إزاء كل هذا الدم الذي تتلطخ به يداه إلا أن اتساءل أي انسان يرى بلير حين ينظر في المرآة.