هكذا تدور السنوات وتولد مصر من جديد، تولد على أيدي شبابها، على أيدي جيل جديد لم تر أحلامه وطموحاته النور إلا في العصر الالكتروني، عصر التقنية والتواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت ومنتدياته.. جيل ثوري جديد، لم يؤدلج تماما لأن زمن الأيديولوجيا كان قد انتهى أو على الأقل لملم فلوله عالميا.. جيل لم يختلف إلى مثال، ولم يتربّ على يد مفكر أو مثقف يلتحف بالنظرية. جيل أكد حضوره بفكر مختلف، وبأدبيات جديدة لم تشكلها الشعارات البالية.. جيل وجد حضوره ومنتدياته بعيدا عن مجالس المتقاعدين وأرباب المعاشات والضمان الاجتماعي المسماة زورا بالبرلمانات، وجد حضوره في ملامسة نبض آخر، وفي معايشة واقع آخر يتمثل في تصديق ذاته هو وآماله هو بعد أن ضيع الكبار مشاريعهم، وأفسدوا الواقع بحكاياتهم القديمة، وبتجاربهم التي باتت تجارب استثمارية نفعية أكثر منها تجارب تقدم نموذجا أصيلا للحياة.
من ميدان التحرير انطلقت ثورة شبابية، لتصنع تاريخا جديدا مجيدا لمصر، ثورة تصل الماضي القريب في ثورة 1919م متجاوزة الذهنية الانقلابية، والذهنية القمعية، ثورة تريد أن تلامس حواف المستقبل، وأن تصنع رؤاها الخاصة، وأحلامها الغضة التي استلهمت قيم النضال الحق من ثورات شبابية طلابية أخرى جرت بعد نكسة العام 1967 وفي العام 1972 .. إنها أغنية الكعكة الحجرية الجديدة التي غناها الشاعر أمل دنقل من قبل، وصارت شعارا:quot; أيها الواقفون على حافة المذبحة.. أشهروا الأسلحةquot; وها هو شباب اليوم يشهر أسلحته المطالبة بالتغيير الجذري لنظام شاخ وعربد وقسم مصر إلى تكايا وعطايا وهبات على بطانة تشكلت خلال العقود الثلاثة الماضية.
ثورة تغيير شاملة، تستعيد فيها مصر عافيتها، ودورها العربي الحضاري المسلوب.. لقد أفاق الناس من حالة الكوما، ولم تعد الغيبوبة السياسة تشكل صورة ديكورية لهم، لقد كسروا ملامح الغيبوبة، وشبوا عن طوق المسكنات ، وطوق الفساد الذي جعل مقدرات البلاد ومنجزاتها تجري في أيدي رهط من رجال الأعمال والمنتفعين والمقربين من النظام.. كسر الشباب كل طموحات الفساد التي وزعت الأراضي والعقارات والشركات الكبرى فيما بينها..وتركت أكثر من 40% من المصريين تحت خط الفقر، جيل كسر حلم التوريث، وكسر سلطة البرلمانات المزيفة.
تجمع الشباب من الحلمية والزيتون، وعابدين، وبولاق الدكرور وشبرا والمطرية والعباسية والوايلي وعين شمس والظاهر والسيدة زينب ومصر القديمة والمنيب، ومن مختلف أحياء القاهرة تجمعوا في ميدان التحرير لتنطلق أصواتهم الغاضبة:quot; الشعب يريد إسقاط النظامquot; تجمعوا في ساحة التحرير ليقدموا للعالم صورة أخرى لشباب جديد، تحرك بعدها في مختلف محافظات مصر في السويس والإسماعيلية والإسكندرية وبني سويف وأسيوط والمنصورة وغيرها من المحافظات والمدن .. فاجأوا السلطة بل والعالم بأن ثمة يقظة، وأن ثمة جمرا يعوي تحت الرماد.. لم تفلح عقود التنويم المغناطيسي الثلاثة في طمس الوعي وطمس الوجدان المصري.
كانت إرهاصات كثيرة قد وجهت للسلطة بمختلف مستوياتها السياسية والثقافية الرسمية بأن ثمة تغييرا قادما، حركة كفاية، شباب 6 أبريل، وقفات بعض الشرائح الاحتجاجية في القاهرة والمحلة الكبرى والإسكندرية والسويس، كتابات الشباب والشابات في الفيس بوك والمدونات، الاحتجاجات على التوريث، إشارات كثيرة حدثت قابلها النظام بتراخ، وبازدراء، وبقمع أحيانا كما حدث مع عمال النسيج بالمحلة الكبرى.. كانت إشارات تطالب بالإصلاح وبالعدالة الاجتماعية وإيجاد وظائف لعاطلين عن العمل، وبتحسين الأجور .. بيد أن النظام الشائخ الذي يديره من هم فوق السبعين عاما أبى واستكبر، ولم يقدم سوى بعض المسكنات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
كانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي تحول فيها مجلس الشعب المصري إلى لجنة من لجان الحزب الوطني هي القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث توارت المعارضة، وتوارت الأصوات الشابة، ونجح كبار السن ورجال الثروة المتحالفين مع السلطة.. وبدا أن الوجه السياسي القادم أكثر كآبة..
هذا الواقع المحبط حفز للخروج، وجاء يوم 25 يناير 2011 الذي تحتفل فيه مصر بعيد الشرطة، ليشكل عيدا جديدا لولادة ثورة من أكبر الثورات التي تشهدها مصر في السنوات الأخيرة، ثورة شابة حقيقية .. لن تتنازل عن التغيير، خاصة وأن وعيا جديدا يسود، وعقولا كفرت بالشعارات المزيفة وبالأحزاب الورقية التي أفسدت الحياة المصرية وعلى رأسها الحزب الوطني.