تقول النكتة السوداء إن quot;الصحافة العربية مرت بثلاث مراحل. في المرحلة الأولى كان الصحافي يكتب والمواطن يقرأ، في المرحلة الثانية كان الصحافي يكتب والمخابرات تقرأ وفي المرحلة الأخيرة تكتب المخابرات وتقرأ ما كتبتquot;. ولأنها تقرأ ما تكتب لم تنتبه للمارد الذي كان يتشكل في الفضاء الرقمي. وعندما سمعت أخيرا اسمه على التويتر ظنت أنه فيروس يجب تطعيم الشعب ضده قبل أن تصدر أوامرها بإيداعه السجن. كان الأفضل هنا quot;تذكيرquot; المخابرات بدل تأنيثها، فتاريخ القمع العربي كان ذكوريا.
الآن خرجت علينا صحافة المواطن تسمع وتشاهد وتتحقق وتوثق وتكتب. والمواطن نفسه يعلّق ويضيف ويحذف وينشر ويعيد النشر. يا إلهي ماذا quot;فعلتquot; بهم ثورة الاتصالات بعد كل ما quot;فعلوهquot; بنا.
كان مفتي الديار منهمكا في خطب الجمعة يسبي النساء ويطلق الفتاوى ويلعن الكفار ويدعو لمولاه بطول العمر ويحذر العامة من الخروج عليه حتى فاجأه جيل غامض يرتدي الجينز ويحمل الموبايل ليضع مولاه في متحف الهاربين، ويمضي لمولاه الآخر القابع في الشارع المجاور.
كان رئيس التحرير يحرق سيجارته المائة وهو يعدد في إنجازات الزعيم الضرورة، وحب الشعب الجارف له حتى مرر له محرر شاب رسالة نصية تخبره بأن زعيمه المحبوب يحزم حقائبه، فأشعل سيجارته الألف، وقلب الصفحة، وكتب: يحيا العدل.
كان مدير التلفزيون يصرخ بمنتجيه، أريد مزيدا من التفاهة والعري والنطنطة فجمهوري شاب وهو لن يرضى بهذه الرتابة المميتة. وعندما رأى الجموع على شاشة quot;علبة الكبريتquot; ظنّ لأول وهلة أنها حفلة لهيفاء وهبي. وصرخ quot;هاتولي واحد منهمquot; لكن quot;كلهمquot; كانوا في ميدان التحرير.
كان أصحاب اللحى الصفراء يخرجون مواعظهم من القبور، ويربطون الشباب بالأحزمة الناسفة، ويوئدون الصبايا في بيوت quot;المسيارquot;، وعندما شاهدوهن يتظاهرن في الشوارع ظنّوا لأول وهلة أنهن حوريات الجنة قبل أن يكتشفن أنهن حوريات سيدي بوسعيد وميدان التحرير.
في شارع الطبقة المتوسطة خرجت الطبقة بأسرها، بشبابها ونسائها وأطفالها وفنانيها وصحافييها، ومقرئيها وواعظيها وقسوستها. خرجت بهواتفها الخلوية ونوتاتها الإلكترونية. خرجت بأناشيدها وأغانيها وأهازيجها وبنكاتها الذكية القصيرة اللماحة. لم تحتج إلى صور ويافطات. وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك خرجت بوعيها الاجتماعي المرهف بأن في غياب الحرية سيغيب حتى الرغيف الساخن.
توقع البلطجيون أن جمالا حك السياح مؤخراتهم عليها قادرة على أن تكسر شوكة الثائرين، وأن بلطجية تربوا بين الكباريهات ومقر الحزب الوطني قادرون على هزيمة روح جيل يعرف أن هذه معركة عمره.
أخرج فلاسفة الفضائيات كل ما في جعبتهم. قالوا إنهم شباب غض، وإنهم غير منظّمين، ولا قيادة لهم. فضربتهم في وجوههم المطالب السبعة، والقيادة العشرية، والتكتيكات اليومية التي تخدم الهدف الاستراتيجي الذي لم يغب على وعيها لحظة واحدة.
إنها الطبقة المتوسطة يا غبي التي كانت تحفر قبر الدكتاتورية بالعلم والوعي فيما كانت الشعارات الغوغائية تغرقنا من النهر إلى النهر.
إنها الطبقة المتوسطة يا غبي التي تمكنت في أيام من شد الطبقات الشعبية إلى ميدان تحريرها لتحررها من الخوف. إنها الطبقة التي سالت دماؤها ولم تسل دماء أعدائها.
غدا ستغرقنا بفنها الساحر، وإعلامها المهني، ومدارسها الراقية، وجوامعها المتسامحة، وكنائسها المعتدلة.. وشارعها النظيف، المؤدب.. ولقمة العيش النظيفة بعدما لوثها الفساد عقودا.
غدا وعلى امتداد بلدان القمع ستختفي مؤخرات الرجال المتراقصين على قنوات الوناسة.. وستختفي الجواري المنتظرات في محلات العطور والتجميل.. وسيختفي شعراء البلاط وإعلاميوه.. وستختفي فتاوى الفساد، وشيوخ الفضائيات.. وسيختفي الزعيم الضرورة سواء.. سندخل عصر الدولة المدنية الذي دخل فيه العالم منذ أكثر من مائتي عام. سندخله ومعنا نون النسوة، لن نتركهم بعد اليوم في الحوش الجواني.