تكرر كثيراً في السنوات الأخيرة، مفهوم (الآخر) في الخطاب الفكري العربي، واصبح موضوعاً للجدال الفكري والسياسي بين الاتجاهات الثقافية والدينية المختلفة. ومفهوم الآخر، عنصر اساسي في فهم وتشكيل الهوية، حيث يقوم المجتمع بتشكيل ادواره وقيمه ومنهج حياته قياساً ومقارنة بالآخرين، كجزء من منهجه التفاعل البيني التي لا تحمل بالضرورة معاني سلبية.

والآخر، المتداول في مجال الخطاب العربي، هو: الآخر في الهوية، الآخر في الايديولوجيا، في الدين، في الاتجاه السياسي، في الفكر، في الجنس والعرق والنوع....
بين الذات والآخر، علاقة جدلية لا ينبغي الغاؤها او تجاهلها، والسكوت عنها. فعلاقة كل منهما بالآخر هي ثنائية قائمة في طبيعة الحياة، يعد كل شطر منها شرطاً لوجود الشطر الآخر وفهمه ووعيه والاعتراف به.

وجدلية الذات/ الآخر، تعني، في الحالات كلها، انه يستحيل وجود الواحد منها من دون وجود الآخر، او معرفة الواحد منها من دون معرفة الآخر، حتى اصبح كل من هذه الثنائية عاملاً لمعرفة الآخر، فهما ذاتان منفصلتان ومتصلتان في الوقت نفسه، مفترقتان ومتحدتان، وغدت العلاقة الجدلية بينهما جزءاً من كل منهما وشرطاً لوجوده واستمراره.

لا تكون الذات الا بوجود الآخر، وهذه بديهية، ويصعب الاستدلال على الذات من دون معرفة حقيقية وشاملة بالآخر. ولذلك نلاحظ دائماً ان الذات تسعى وتطمح الى معرفة الآخر من خلال الدخول اليه، وتلمس بنيته وتركيبه ومواصفاته وماهيته، لأن ذلك من المقدمات التي لا بد منها، والحاجات التي لا يستغنى عنها، لمعرفة الذات ذاتها ووعيها بها، فلا تستقيم الحياة الانسانية دون الوعي.

والوعي من غير الاختيار الحي يجعل الانسان منفصلاً عن واقعه ومعتزلاً عما حوله، وهكذا يكون الوعي المتبلور من جدل الحياة والمعرفة هو وعي لقدرة الذات على التعامل مع السياق الذي تتحرك فيه، واكتشاف عناصره ومكوناته، اي الآخر، بالمعنى الواسع لمفهوم الآخر. فالقدرة على الخروج من دائرة الذات الى ما هو خارجها تعني الثقة بالذات من جانب وتعني قدرتها على ان تمتحن بما تملك من رؤى وافكار من جانب آخر.

ومن البديهي ان الوعي هو المحدد الرئيسي للآخر، والقادر على تصوره او تلمسه، ومن دون الوعي يستحيل اقرار وجود الآخر ومعرفته. ولأن عملية الوعي، مركبة، فردية، جماعية، قبلية، قومية، دينية، اثنية، فان ماهية الآخر ومواصفاته وفهمه واساليب التعامل معه تحدد في ضوء هذا الوعي والمرحلة التي يمر بها. ذلك، ان صورة الآخر ليست هي الآخر نفسه بل مفهومه، وانعكاسه في الذات، وهذا يرتبط بالشرط التاريخي، اضافة الى الوعي الفردي، وصورة الآخر وان كانت مجردة شكلاً فهي في الواقع حصيلة شروط مادية، ونتيجة شروط خارجية لا ذاتية، رغم تكونها في الذات، والآخر هو اكتشاف الوعي وحصيلة الوعي، ولذلك يرى البعض حتمية وجود الآخر عند العقلاء وغيابه عن غيرهم.

اذن، لانه لا يمكن فهم الذات بدون فهم الآخر، فينبغي الاعتراف بوجود علاقة شرطية وجدلية بين الذات والآخر، حيث يصبح الآخر شرطاً لتحرر الذات من ذاتيتها، ولا تتحقق الذات في الواقع الا بالتفاعل مع الآخر. ولكن هذه العلاقة الجدلية بين الذات والآخر والتفاعل بينهما ليسا امراً تلقائياً بل هما امر صعب. وهناك من يقول انه لا يوجد علاقة بالآخر الا على قاعدة غالب ومغلوب، ولذلك فان جدل الحياة والمعرفة ينتج وعياً بالذات وبالآخر، ولا يستقيم هذا الوعي اذا اكتفى بالذات من دون الآخر.

ان تمثل الآخر في الثقافة العربية ليس معطى من معطيات بنية العقل العربي بل هو انتاج اجتماعي، عندما كان المجتمع العربي في قوته، وكانت ثقافته في مدها غير مهتزة، لم يكن الآخر مشكلاً او جحيماً، وكان حقل الآخرين متسعاً والآخر متعدداً.

ان اكتشاف الآخر عملية ممتدة في الزمان ولا تتوقف ابداً، وذلك بسبب التفاعل الانساني بين الامم والشعوب والثقافات في اوقات السلم والحرب على السواء، غير ان ذلك لا ينفي ان هناك لحظات تاريخية فاصلة تشتد فيها الحاجة الى الاكتشاف المكثف للآخر ونحن نمر في الوقت الراهن على المستوى العالمي بلحظة تاريخية مثيرة نحاول فيها عرباً ومسلمين وغربيين ان نكتشف الآخر.

الغربيون معنيون عناية شديدة باكتشاف الاسلام كدين واستكناه طبيعة المسلمين كبشر، واستطلاع ماهية الثقافة الاسلامية وسماتها البارزة، وتحليل دوافع البشر الذين يسلكون في ضوء قيمها وتوجهاتها. والمسلمون المعاصرون معنيون ايضاً بحكم المعارك الضالعين فيها باكتشاف الآخر الغربي وتحليل طبيعة الايديولوجيات التي يتبناها ودوافع السلوك التي تصوغ الاستراتيجية الغربية ازاء العالم الاسلامي.

ان من اهم الملاحظات التي يمكن حصرها على نحو مقبول لتحليل هذه المسألة:
اولاً: ان القوالب الجاهزة التي ورثتها الثقافة العربية لقياس العقل العربي، مثالية، ومادية، او فلسفية وايديولوجية (فكرانية)، انما تحتاج الى تدقيق دائم وفحص منطقي يبين مدى صلاحية بعض هذه القوالب للاستمرار او لاعادة بناها من الناحية الذاتية والموضوعية لمفهوم العقل العربي.
ثانياً: ان العقل الغربي، على الرغم من كل القراءات الغربية في دوائر الاستشراق، يظهر لنا كأنه مليء بالطفح الذي خلفته الثقافة الاوروبية الحديثة في مكونات الاتجاهات التي شجعها الاستعمار، وابرزها استعلاء العقل الغربي على العقل العربي.

ثالثاً: ان العقل العربي وكنتيجة منطقية لهذه المؤثرات التكوينية في البنى المعاصرة تأثر الى حد بعيد بالتبعية الليبرالية والماركسية والبراغماتية والوجودية وصولاً الى البنيوية وما آلت اليه من تفكيكية...

رابعاً: ان الخطورة دائماً تكمن في منطق العلاقة بين العقل العربي والعقل الغربي، وانها تصدر عن عوامل ذاتية في تكوين هذه العلاقات، فتصفها مرة بالنكوص او الازدهار، وعن عوامل خارجية في تكوينها، فتصفها مرة بالحوار او اخرى بالانعزال.

ويمكننا هنا ان نستمر في هذه القراءات بالملاحظات، لكن الصحيح، ومن نظرة تفاؤلية، الى الموقف الحقيقي للعقل الغربي من العقل العربي، انما تنحصر في امرين:
الاول: تبعية العقل الغربي للعقل العربي عندما كان للعقل العربي تأثيره في تكوين العقل الغربي الحديث آبان العصر الوسيط وعصر النهضة الاوربية.
الثاني: ازدواجية العقل العربي بالعقل الغربي عندما ضيع الغربيون وخصوصاً دوائر الاستشراق المؤثرات الحقيقية للعقل العربي في العصر الحديث.

وبناءاً على ما تقدم، يمكن ان نوضح، ان الغرب الاستعماري بعد سقوط غرناطة (1392م) توجه بكل الوسائل الممكنة مادية ومعنوية وروحية... الى الاضرار بالعمق التراثي للمكونات الاصيلة للعقل العربي الذي يمتد الآف السنين في الكمون والظهور، وفي عصور مختلفة، حتى بدت للغرب من خلال جملة المواقف الحضارية والدينية والثقافية، ان العقل العربي خطر جسيم على منجزات الحضارة الاوربية الحديثة.

وهنا نلاحظ بكل دقة، دائماً كانت مسالك دوائر الاستشراق في بناء قوالب مناظرة لاصول العقل العربي، ومن هذه القوالب واكثرها خطورة على ثقافتنا العربية الحديثة برمتها، خلق حالة من الصراع بين العقل العربي (السامي) والعقل الغربي (الاري) تبعاً لنظرية الجنس.

وتأسيساً على هذا المنحى، ظهرت عشرات الاتجاهات الغربية في منازعة العقل العربي في الدين والفكر والحياة والادب والفن.. حتى آل الامر الى ايجاد صور مهزوزة لكل انشطة العقل العربي كتراث لكي يصل الى الغرب بادواته الاستشراقية الى تسفيه منجزات العقل العربي على مداه وعمقه في البناء الحضاري للانسان.

وليس هذا الموقف بالذات وليد التعصب العنصري الاوروبي فحسب بل هو وليد الاستعلاء للقوي بمنظور الاستعمار القديم والمتسلط في منظور الاستعمار الحديث، وللطغيان في منظور الاستعمار المعاصر الذي نعيشه اليوم.

وفي هذا المجال، نذكر الجحود الذي اتصف به الغرب بدوائره المختلفة خلال قرون لما آل اليه من انجازات العقل العربي، بل تجاسر هذا الغرب ووصف العقل العربي بانه غير مبدع طالما انه استعار انجازات العقل الاغريقي، ثم وصل الامر ان اعتبرت دوائر الغرب ان العقل العربي (شرقي) له سمات تختلف تماماً عن توصيفهم للعقل الاغريقي (الغربي).

وبهذا يكون الغربيون قد فعلوا ما رادوا في ازمان وظروف وحالات مختلفة للحط من قيمة العقل العربي، على الرغم من التاريخ يذكر على نحو واضح مسائل متعددة لها دلالة قاطعة عندنا اليوم على ان العقل العربي بكل موروثاته ومكوناته واستمراريته وحيويته قد انبهر به الغربيون وتأثروا به وقلدوه واخذوا عنه، ونحلوه، بل حرفوه، وفصلوا في جزيئاته وما جعلوه لبوساً لاعمالهم وانجازاتهم على مدى قرون.

ويكفي ان نذكر هنا، وعلى نحو عاجل، ان الغرب لا ينظر الى العقل العربي موروثاً غربياً لاتينياً منذ تأسيس مدارس وجامعات اوروبا في القرن الثالث عشر، بل حتى منذ اعتلى سلفستر الثاني (البابا) الذي وضع الحجر الاساس لقراءة النهضة الاوروبية من خلال دراسته للثقافة العربية ومكوناتها في مدارس اندلسية معروفة.

والسبب في هذا الاستصغار في نظرة الغربيين للعقل العربي، موروث في الثقافة الاوروبية الحديثة، وقد نهض مفكرون كثيرون على مدى قرون لايذاء منجزات العقل العربي على نحو صرنا نعرفه وندرك خطورته، ولكن كل مناحي النشاط المطلوب في وحدة الامة وثقافتها والتبصر بتراثها والنظر الى مستقبلها، يأتي الخطر من داخلنا عندما نجد ان الخطاب الذي يجب ان يصدر عن العقل العربي موصوفاً بالحذر والرقة، لا يستوي مع طموح امة فرقتها المصالح النفعية وأضرت بها انظمة سياسية انفعالية رسمتها دوائر الاستعمار وسياسات ذات طابع تبعي غربي في تطوير العقل العربي، حتى ولو كانت من هذه السياسات ما يظهر بمظهر الاصلاح والسلفية، فهي لا تصدر عن العقل العربي بقدر صدورها عن حفريات لدوائر الغرب في تصديع العقل العربي نفسه.

ان نظرة الآخر، تبقى دائماً مصدراً للريبة، لذلك، فان ما نراه سرعان ما يتحول الى شيء متطرف في ايجابياته او سلبيته، ويجري التعامل معه على هذا الاساس، وهذه الريبة هي التي جالت دون ادراج هذه النظرة في خطاب نقدي للذات.

ان مهمتنا كمفكرين ان نسعى الى فك عوامل الاشتباك بين الذات العربية وموضوعيتها، لكي يستطيع العقل العربي ان يقف ازاء الغرب مرة اخرى، فعلى الرغم من الايديولوجيات والفلسفات والتكنولوجيات... ولكي ينتصر العقل العربي لابد من وحدة المنهج والهدف والاساليب لامتنا العربية التي اصابها حيف كبير من دوائر الغرب وبوجه خاص انساننا العربي المعاصر الذي يحتاج الى اعادة صرح العقل العربي من جديد.

ولكي نصل الى نتيجة معقولة، نجد ان مهام انبعاثنا اليوم في صلب معركة المصير مع الغرب على الرغم من التحديات المستمرة لبقائنا الحضاري.

[email protected]