خُططَ في أروقة القوى الرأسمالية العالمية إسلام سياسي بمنهجية جديدة ليواكب العصر، ونفذ بمعية قوى إسلامية وعربية، تبوأ حزب العدالة والتنمية هذا الحراك، ودعم بقوة، ودفع به لينعزل عن الحزب الإسلام الراديكالي الأم، وعزلوا الأب الروحي quot; أربقان quot; من الساحة رغم بقائه المرجع الأساسي للحركة الإسلامية التركية في الخفاء، وعلى مدى سنوات قلائل إستطاعت حكومة السيد أردوغان أن يكون البديل المطلوب على الساحة الإسلامية، وأن يحصل على دعم إقتصادي وسياسي لا محدود من القوى الخارجية، تشكل التيار بكتلة ليبرالية إسلامية من مجموعة quot; أردوغان وغول وكولان quot; على الساحة الإسلامية، وأصبحوا المثال الذي جسدوا عليه معظم الدول والمنظمات الإسلامية جهودهم، خاصة في فترة الثورات الشبابية الجارية، وكان ذلك مقابل أجندات دولية ورأسمالية عالمية في المنطقة، وبشروط مسبقة لدور تركيا في المنطقة تحت مفاهيم الإسلام السياسي الجديد، يجب أن لا يتجاوزها، ومنها المصالح الدولية والصهيونية العالمية، لقنت الإتفاقية لقادة هذا التيار، وكان هناك إتفاق إستراتيجي عليه.
تجاوزت الدولة التركية المدى المسموح لها من حيث التحرك الدبلوماسي والتعامل السياسي والغايات أو الطموحات الإقتصادية في المنطقة، فحذرت الرأسمالية العالمية حكومة حزب العدالة والتنمية وعلى رأسها quot; أردوغان وكولان quot; على تجاوزاتهم، أدت إلى هدوء نسبي في الفترة التي سبقت الثوارت الشبابية في الشرق، كما خفت تحركاتهم، لكن الثقة الخاطئة بالذات أدت إلى أهمال أو النسيان على المتفق، فكانت الإعتداءات السياسية والدبلوماسية على العلاقات الإستراتيجية مع الدولة الإسرائيلية وإهمال لتغيير مخططات الرأسمالية العالمية، ودخلت في تحالفات جانبية، أحتلت أجندات الدولة التركية والنزعة القومية الطورانية الركيزة الأساسية في التعاملات التكتيكية والإستراتيجية، وقد كانت هناك محاورات غائبة عن الصحافة حول ما يجري في الشرق والثورات الشبابية، وأحد أهم بوادر الصراع كانت طريقة التعامل مع القضية الليبية عندما أرادت الدولة التركية أن تكون لها الأولوية في التدخل، خَلفَت هذه القضية صراع قوي بين الدول الأوروبية وتركيا، رغبت الأخيرة أحتضان جميع تحركات الناتو في الشرق، ومنها صراعها مع أسرائيل، وليست مع الصهيونية العالمية، لتبوأ المركز كقوة أولى في العالمين العربي والإسلامي.
نبهت أمريكا والدول الأوروبية في عدة حالات حكومة العدالة والتنمية على التمسك بدورها كتيار إسلامي ليبرالي ونشرها كقوة مواجهة للتيارات الراديكالية والسلفية والمد الشيعي في المنطقة، لكن النزعة القومية والحلم التاريخي دفع بالبعض منهم على تجاوز الخطوط الحمر، فكانت أول تنبيه بإنقاص نسبة الدعم الرأسمالي للدخل الوطني التركي من نسبة 40% من أجمالي الدخل القومي إلى 12% كمرحلة أولى ومن ثم إلى 8% عام 2010، هذا الدعم الذي حفظت تركيا حتى اللحظة من عدم الإنهيار إلى مستنقع الأزمة المالية العالمية، في الوقت الذي كانت فيها تركيا من أوائل الدول التي كانت تتأثر بالإنهيارات الإقتصادية العالمية، وتتالت بعدها تحذيرات إقتصادية وسياسية عدة، أصبحت أكثر وضوحاً في الصراعات الدولية حول الثورة السورية.
دعمت تركيا الثورة السورية في بداياتها، قطعت تدريجياً علاقاتها التكتيكية ومن ثم نبهت إلى قطع العلاقات الإستراتيجية الإقتصادية والسياسية مع السلطة السورية، حصلت تركيا مقابل ذلك على دعم إقتصادي ضخم، العملية والخطط لم تكن من أجل الثورة السورية بقدر ما كانت عليه تحقيق أحلامها الإقتصادية والسياسية والتاريخية في الشرق، إلى جانب المنهجية المتفقة عليها وهي تغيير مفاهيم الإسلام الراديكالي الذي كان له دعم مباشر من قبل الطغاة الحاليين في الدول العربية، بعكس ما يظهرونه في إعلامهم من صراعات وهمية مع المنظمات الإرهابية quot; دعم طغاة الدول العربية المباشر وغير المباشر للمنظمات الإرهابية الإسلامية ومنهم القاعدة في أفغانستان والعراق وغيرها حقيقة لم يعد من الممكن إنكارها quot;.
رغم ما قامت به العدالة والتنمية من إحتضان المؤتمرات الإسلامية المحسوبة على الثورة السورية إلا أنها لم تتخلى يوماً عن غاياتها ومصالحها القومية، وكانت القضية الكردية حاضرة الوجود في كل إتفاقياتها وكذلك أحلامها السياسية والإقتصادية داخل العالمين العربي والإسلامي والتي هي خطط مستقبلية ليكون البديل عن المساعدات الرأسمالية العالمية.
تفاقم الصراع بين أوروبا ومعهم الرأسمالية العالمية وتركيا إلى حد الأزمة، وعليه أبتعدت تركيا وجوداً سياسياً وتلكأت تصريحاتها الدبلوماسية والإعلامية عن الساحة بالنسبة للثورة السورية، من سوية التصريحات القوية ضد بشار الأسد إلى درجة التنبيهات، وتكاد تختفي أطراف المعارضة السورية من الساحة التركية وقلص الدعم لجيش السوري الحر كخطوة لإنهائهم، والصراع لا يزال حاداً فيما وراء الكواليس بين حكومة العدالة والتنمية والدول الأوروبية بشكل خاص والرأسمالية العالمية بشكل عام، والخاسر في خضم هذا الصراع السياسي الإقتصادي هم الثوار السوريون الذين تعمل فيهم السلطة الفاشية آلة القتل بشكل يومي، كما وتؤدي إلى تطويل عمر السلطة السورية، وعليه تدفع الثورة الشبابية السلمية المزيد من الشهداء والتضحيات وربما سيجرون الشعب السوري إلى مستنقع حرب أهلية، في الوقت الذي تصدق المعارضة السورية في الخارج آكاذيب وخدع الجامعة العربية، على إنها تملك القدرة في وضع الحلول للقضية السورية، أو إنه بإمكانها أن تقدم شيئاً ما، كما شرحها الكاتب quot; عباس عباس quot; في مقاله quot; آفة مبادرات العرب في ربيع الثورات quot; عندما بين على أن القادم من الزمن وبعد دمار بشري وبنية تحتية أفظع من قبل السلطة الأسدية، ستطلب المعارضة السورية في الخارج الدعم والتدخل المباشر من الدول الكبرى وذلك عن طريق مجلس الأمن وبدون قيود لإزالة هذه العصابة من السلطة. وإلى أن تظهر هذه الصراعات، الجارية بين الدول الأوروبية وتركيا والضائعة بينهم الجامعة العربية إلى خارج الأروقة السياسية، نستطيع التأكيد على إنها موجودة وعلى المعارضة السورية إدراكها، ومن أهم النقاط التي توضح هذا الصراع هي:
1. رغبة تركيا في خلق منطقة عازلة على طول حدودها مع سوريا وتحت الحماية الدولية، لكن بجيش تركي منفرد أو بمشاركة رمزية من الناتو، والتي رفضت بشكل قاطع من قبل الدول الأوروبية والرأسمالية العالمية لحسابات بعيدة، منها، دور التيار الإسلامي ووجود إسرائيل وغيرها.
2. القضية الكردية بشكل عام ومنظومة المجتمع الكردستاني بشكل خاص والتي طلبت فيها تركيا تدخلات دولية للضغط على الأطراف التي لها تأثير على المنظمة بإنهاء PKK من القنديل، وتصريحات الحكومة التركية الآخيرة حول رسالة القائد المسجون quot; عبدالله أوجالان quot; كانت من ضمن الألاعيب الدبلوماسية التركية في هذا المضمار. إضافة إلى أصرار حكومة العدالة والتنمية إبقاء طرح القضية الكردية في سوريا وتركيا في أروقة الدولة التركية الداخلية، وهنا لأمريكا دور وتعامل آخر في القضية خاصة عندما تحاول تركيا التعرض إلى الأقليم الفيدرالي العراقي أو قضية المناطق المتنازعة عليها. تود تركيا إحتضان هذه القضايا ما بعد سقوط نظام الأسد.
3. دور الإسلام السياسي وتياراتها التي يجب أن تسيطر ما بعد اسقاط النظام في سوريا.؟ وعلى هذه النقطة للدول الأخرى كروسيا تدخل واضح فيه.
أدى الإحتدام السياسي والدبلوماسي بين تركيا والدول الأوروبية إلى ظهور قضايا كانت حتى البارحة على رفوف الإهمال والنسيان، مثل قضية مجازر الأرمن، والتي أفتعلت وظهر القرار بها من قبل البرلمان الفرنسي خلال أقل من أسبوع، ولم يكن تفعيل القضية بهذه السرعة سوى تنبيه قوي إلى حزب العدالة والتنمية للحد من تجاوزاتها. لا أستبعد ظهور أزمة مالية في تركيا في القادم من الزمن، إضافة إلى عزلة ربما سياسية أو إقتصادية ستفرض عليها، إذا لم يتراجع حكومة أردوغان عن سياستها الإنفرادية في العالمين العربي والإسلامي، وما لم تمرر مفاهيم الإسلام السياسي الليبرالي المندمج مع العلمانية ونشرها في المنطقة كما خطط لها بمنهجية، وتبقى الحارس الأمين لمصالح القوى الرأسمالية العالمية، ستعود تركيا إلى المربع الذي كانت فيه يوم كانت الليرة التركية تطبع بستة أصفار.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
التعليقات