سوريا، منذ حكم الأسد الأول، اختارت لنفسها موقع quot;المقاومةquot; عبر أكثر من جيب لها في دول الجوار، وأن تمشي في مسيرة quot;مقاومتهاquot; هذه، خلف إيران، quot;لمواجهة الشيطانين الأكبر والأصغرquot;، كلما اقتضت الحاجة إلى أن quot;تقاومquot;.

هي، إذن، منذ أكثر من أربعين عاماً من حكم الأسدين الأب والإبن، لا تخفي ولاءها لإيران وتحالفها الأكثر من إستراتيجي معها، في أكثر من ملف، وعلى أكثر من صعيد، سواء على مستوى سياستها في الداخل، أو في الخارج.

هي خبرت منذ عقودٍ من اللعب الخارجي، بمصائر الآخرين والمقامرة على قضاياهم المحاصرة في جيوبها وحدائقها الخلفية، وتعلمت من quot;كيسهمquot; كيف تبيع للعرب وجامعتهم، من فلسطين إلى لبنان وصولاً إلى العراق، الوطنيات والشعارات الخارجة على كلّ الوطن، وما بينها من quot;عروبةٍ ميتةquot;، لا تغني ولا تسمن، ولا تسد للشعوب العربية جوعاً، ولا تبلّ لهم ريقاً.

أما مع إيران الأكثر من صديقة، فعرفت quot;سوريا الأسدquot; كيف تصبح في المنطقة الجالسة على برميل بارود، quot;لاعباً تحت الطلبquot;، يحسب لها ألف حساب وحساب.

بعد دخول الثورة السورية شهرها العاشر، ثبت للكل في الداخل والخارج، وللداني والقاصي، أنّ إيران وأحزابها وملوك طوائفها quot;الإلهيةquot;، التي كانت في مصر الثورة وأخواتها، ثوريةً أكثر من الثوار أنفسهم، ليست هي إيران نفسها في سوريا الثورة المشتعلة منذ الخامس عشر من آذار الماضي.

فهي هناك مشت مع الثورة وصفقت وquot;توسطتquot; لها عند الله لتعبر إلى انتصارها quot;الإلهيquot;، أما هنا فسدّت الطريق أمامها، وأفتت عن طريق quot;آياتها العظمىquot; بquot;إهدارquot; دم الثوار الذين وصفتهم بquot;العصابات المسلحةquot;، ودعمت قتلة الثورة بالمال والسلاح والسياسة والديبلوماسية وما تسنى لها من دينٍ وفتاوى، ولا تزال.

نظام الأسد بالنسبة لإيران ليس مجرد حليف في المنطقة، وإنما هو quot;قضية وجود أو لا وجودquot;، لإن قوة وجود إيران في المنطقة، هو من قوة النظام السوري، ووجودها في quot;مقاومة الشيطانين الأكبر والأصغرquot;، هو من وجوده. من هنا ستبذل إيران كلّ ما في وسعها من أجل إنقاذ الأسد ونظامه من السقوط، الذي إن حصل سيكون مكلفاً ليس على الأسد وآله فحسب، وإنما عليها، وعلى quot;هلالها الشيعيquot;، وملاليها وفقهائها أيضاً. إيران لن تسمح للعالم أن يسقط الأسد ونظامه، هكذا سهلاً، بدون تكاليف باهظة، سيدفع شعوب المنطقة فاتورتها، من دم أبنائها، ولقمة عيشها، وأمن أوطانها، واستقرارها، وتطورها.

الزلزال الذي هددّ به الأسد العالم، هو quot;صنيع إيرانيquot; تحت الطلب، ليس على الأسد وأخوانه من quot;جمهورية حزب الله اللبنانيquot; إلى quot;جمهورية المالكي الشيعيةquot;، على الطريقة الإيرانية، إلا أن ينفذوه، في quot;المكان والزمان المناسبينquot;.

ما شهدناه وسمعناه طيلة الأشهر العشر الدموية الماضية، من خطابات نارية لquot;سيد المقاومةquot; الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصرالله، الذي هددّ فيها بquot;قطعquot; كلّ يدٍ تطال النظام السوري quot;المقاومquot;، إضافةً لما مارسه العراق وديبلوماسيته، في المحافل الدولية والعربية، من صمتٍ رسمي قاتل، تجاه ثورة الجار السوري، ودعمه الفاضح وعلى المكشوف لنظام الأسد، على أكثر من مستوىً وصعيد، كلّ هذا الإصطفاف الطائفي المكشوف وراء النظام السوري، والذي هو بعض غيضٍ من فيض، إن دلّ على شيءٍ فهو يدلّ على أنّ قادم سوريا بات على كفّ أكثر من عفريت، وعلى شفا حربٍ أهلية، ستطال نيرانها الجميع، لأنها ستكون حرب quot;الكل ضد الكلquot;، حسب توصيف توماس هوبز(1588ـ1679)، أحد أكبر مؤسسي الفلسفة السياسية الحديثة، وصاحب النظرية الأشهر في تاريخ هذه الفلسفة: quot;الدولةـ التنين/الليفياثانquot;(1651).

الأزمة السياسية الأخيرة التي عصفت بالعراق بعيد انسحاب آخر جندي للقوات الأميركية منه، والتي قد تصيب العملية السياسية وتوافق الأفرقاء السياسيين العراقيين، في أكثر من مقتلٍ، لا شكّ أنّ لها أسبابها وعواملها الداخلية(الطائفية بالدرجة الأولى)، إلا أنّ خراب الداخل العراقي الطائفي بإمتياز، لا يعني براءة الخارج مما حدث ويحدث، من صناعة الخراب والقتل والإرهاب خلال السنوات التسع الأخيرة، بعد سقوط نظام صدام حسين، من عمر العراق.

أزمة نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، المتهم بحسب رئيس الوزراء نوري المالكي، بquot;الإشراف على فرق الموتquot;، رغم كونها قضيةً داخلية متشابكة، لم تكشف تفاصيلها بعد، إلا أنّ الواضح من توقيتها، وطريقة شحنها الإعلامي غير المسبوق في تاريخ العملية السياسية في العراق، وخروجها عن كلّ ما يمكن تسميته بالإيتيكيت السياسي والديبلوماسي، كلّ ذلك يدلّ على أنّ اللعبة، بغض الطرف عن صحة الإتهام من عدمه، أكبر من العراق، وأن خيوطها التي تتجاوز حدوده، هي ليست في بغداد بيد المالكي، بقدر ما أنها في طهران بيد إيران.

قبل الهاشمي، كانت هناك شخصيات عراقية كبيرة، متهمة بquot;دعم الإرهابquot;، وquot;دعم فلول حزب البعثquot;، وما إلى ذلك من اتهامات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان صالح المطلك، نائب رئيس الوزراء العراقي الحالي، ممنوعاً من المشاركة في الانتخابات العراقية الأخيرة، بسبب شموله بقانون المساءلة والعدالة الخاص بحظر عمل مسؤولي حزب البعث المنحل، إلا ان صفقة سياسية بين الأفرقاء العراقيين المشاركين في الحكومة الحالية، سمحت له بتسلم هذا المنصب.

الآن، بعد احتدام الصراع بين كتلة quot;دولة القانونquot; التي يقودها المالكي وائتلاف quot;العراقيةquot; بقيادة إياد علاوي، على إثر قضية quot;إرهابquot; الهاشمي، يخرج المالكي على العراقيين، مطالباً برلمانهم بquot;سحب الثقةquot; من المطلك quot;الممنوع من الإعرابquot; في السياسة العراقية سابقاً، ونائبه لاحقاً، بعدما وصفه الأخير بquot;انه ديكتاتور أسوأ من صدام حسينquot;.

قضية الهاشمي، أياً تكن أسبابها الداخلية وملابساتها وخلفياتها الكيدية الطائفية، إلا أنها تبقى قضية لها علاقة بما يحدث الآن خارج العراق، وتحديداً في سوريا. تصريحات الهاشمي التي قال فيها بquot;أنّ موقفه من إيران وسوريا وثورتها، هو وراء استهدافه من المالكيquot;، تؤكد، بغض الطرف عن إثبات التهم الموجهة إليه من عدمه، أن خيوط اللعبة الطائفية تتجاوز حدود العراق إلى quot;الهلال الشيعيquot; الممتد من إيران إلى لبنان مروراً بسوريا.

هذه التصريحات التي تعبّر في المنتهى عن إصطفافات مبيتة عابرة للحدود(quot;الإصطفاف السنيquot; ضد الإصطفاف الشيعي)، تعكس جانباً كبيراً من حقيقة الصراع الطائفي الراهن والقادم، الذي سيكون في المنتهى، صراعاً عابراً للأوطان والقوميات، بين مشروعين متناحرين متقاتلين: quot;المشروع الشيعيquot; بقيادة إيران، وquot;المشروع السنيquot; بقيادة السعودية وقطر وتركيا.

تبني دول مجلس التعاون الخليجي في قمته العادية الأخيرة في الرياض اقتراح الملك عبدالله بquot;الإنتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الإتحاد لمواجهة التحدياتquot;، هي خطوة في هذا الإتجاه، لمواجهة الخطر الإيراني وquot;هلالها الشيعيquot; الذي بات يهدد quot;القمر السنيquot; والمنطقة برمتها.

التفجيرات الأخيرة التي طالت بغداد أمس، وانتقلت بالوتيرة ذاتها، والسلوك الشنيع ذاته، إلى دمشق اليوم، لتحصد حياة العشرات من المدنيين الأبرياء، تصبّ هي الأخرى في مجرى ذات الصراع بين المشروعين المتبارزين، وذات quot;البراكسيس الإرهابيquot;.
ليس من باب المصادفة بالطبع أن تسبق quot;القاعدةquot;(المسجلة هنا بماركة سورية) فريق مراقبي الجامعة العربية، لتقوم quot;خلاياه اليقظةquot; بعد وصوله إلى دمشق بساعات، بتفجيرين إنتحاريين، يستهدفان مقرّين أمنيين، مما أسفر عن مقتل وإصابة العشرات أغلبهم من المدنيين، ليخرج علينا الإعلام السوري الرسمي، بعد التفجير بدقائق بإنه قد تمّ القبض على أحد المتورطين quot;القاعديينquot; في التفجيرين!

الرسالة هنا، لمن خبر سلوك النظام السوري، وعقليته المخابراتية، واضحة، لا تحتاج إلى كثير شرحٍ. quot;سوريا الأسدquot;، تريد أن تقول للعالم من خلال فريق الجامعة العربية، بأن quot;سوريا مستهدفة من قبل الجماعات السنية الإرهابية، التي تسعى إلى تحويل البلد إلى إمارات سلفية، ومن يستهدف الدولة يُستهدف، ومن يريد قتل الدولة ومؤسساتها لا بدّ أن يُقتل. نقطة أول السطر.quot;
هكذا..وهكذا فقط، على سُنة هذه quot;المؤامرة الدوليةquot;، يمكن أن يذهب النظام الذي قتل حتى الآن أكثر من 5 آلاف من المدنيين، وجرح واعتقل وعذّب وغيّب عشرات الألاف من السوريين الأبرياء، إلى quot;براءتهquot; المفترضة.
تلك هي quot;نظرية المؤامرةquot; السورية، التي ركبها النظام منذ الأول من الثورة السورية، حتى اللحظة.

ما يهمّ النظام، هو أن يجعل من كذبته الكبيرة هذه، quot;حقيقة كبيرةquot; وذلك على الطريقة النازية المعروفة: quot;أكذب أكذب أكذب حتى يصدقك العالم!quot;
هكذا يكرر النظام السوري، الفعل النازي، على طريقته الخاصة، بإمتياز، الذي يقتل شعبه منذ حوالي عشرة أشهر، ثم يقتل، ثم يقتل حتى يصدقه العالم!

ما كان في سوريا، هو ذاته الذي يكون الآن في العراق، وما يكون في إيران هو ذاته الذي يجب أن يكون وسيكون في العراق وسوريا وما حولهما من جيوب إيرانية quot;إلهيةquot;. فما بين البلدين quot;العربيينquot; المختزلين الآن في الطائفة، من quot;هلالٍ شيعي حيquot;، هو أكبر بكثير، مما بينهما من quot;عروبةٍ ميتةquot;.

هوشنك بروكا

[email protected]