إنتهزت بعض قيادات الأحزاب السياسية التى تتمسح بالدين الإسلامي، والإسلام بها برئ، فرصة الإنتخابات التشريعية التى تشهدها الساحة المصرية منذ نهاية شهر نوفمبر الماضي وقامت بشن هجوم جهول مُجهل علي الكثير من الشخصيات المصرية التى أثرت إيجابياً وبشكل موثق ومعترف به علي المستويين العربي والإسلامي في حياة أبناء وشرائح المجتمع ومسيرتهم الثقافية والتنويرية لسنوات طويلة..
وكما هو متوقع نال أديب مصر العظيم نجيب محفوظ النصيب الأكبر من سهام ونبال هذه الإساءات التى سرعان ما إرتدت إلي صدر قائلها بيد وأقلام وأفكار غالبية ابناء المجتمع المدركون لحقيقة هذه التيارات التى تتوهم أنها قادرة علي فرض الظلام والإظلام علي المجتمع المصري المتحضر عن طريق إعادة عجلة التاريخ إلي الوراء..
إتصف هجوم هؤلاء القوم بالسطحية والفجاجة واللامعقولية.. والأهم من ذلك انهم لم يجادلوا بالتى هي احسن، وإنما نالوا من تلك الشخصيات المصرية العظيمة ومن انتاجهم الأدبي والفني والثقافي والتحديثي بالصراخ والزعيق.. وألصقوا بهم تهمة التكفير والزندقة بلا بينة ولا سند.. وكالوا لهم الأوصاف النابية بلا تحرج ولا حياء..
وبالرغم من هذه الهجمة الشرسة، إلا أن نجيب محفوظ أديب مصر الحائز علي جائزة نوبل في الأدب ( 1988 ) سيبقي حياً بأدبه العظيم وأعماله الخالدة في العقل والوعي العربيين وبالذات في الذاكرة المصرية بل والإنسانية..
زاد من وهج هذا البقاء، حفاوة الثورة المصرية الشبابية الشعبية التى تشارك هذه الأيام بقوة وبحماس في كافة فاعليات مئوية عمنا نجيب محفوظ التى تشهدها ميادين الثقافة والمعرفة المصرية التى تنتشر في العديد من محافظات مصر.. عبر قصور الثقافة والمكتبات العامة والجامعات والجعيات الأدبية، من خلال الاشكال الاحتفالية التى وضعتها كل منها للتعبير عن شخصيتها.. فهناك ورش الرسم والفنون ومفارخ الكاريكاتير والملتقيات الفكرية والأدبية والندوات الحوارية والتجمعات المتخصصة..
شارك شباب الثورة بالقسط الأكبر مع المفكرين والمثقين وقادة الرأي في الترتيب والتحضير وأيصاً في زيادة مردود هذه الفاعليات وتلك التجمعات، ليس فقط للتركيز علي القيم الإبداعية لأدب وتراث نجيب محفوظ ولكن للتأكيد علي دوره التنويري في ترسيخ قيم الحق والعدالة والأخلاق والضمير التى رفعتها شعارات ثورة 25 يناير عالياً، ولا زالت تصر علي تنفيذها بكل صبر وأناة..
لذلك..
سيبقي عمنا الكبير هرماً روائياً يتحدي بروعته وجلاله وقيمته وثرائه عوامل الجهل والفناء..
وقدمت ndash; أي هذه الاصوات وقادتها الكبار - لمؤسسة الرئاسة وثيقة موقعة بالدم تَعد بدعم خطوات تسليم السلطة لجمال مبارك عندما يحين الوقت المناسب!.. علي عرقهم ويعاملهم كالحيوانات ويسوموتهم الذل ويكلفهم فوق طاقتهم.. لأنهم طواقون دوماً للحرية، لذلك قرروا ان يحصلوا عليها بنبابيتهم، اما شباب ثورة 25 يناير الشعبية فقد انتزعوا حريتهم بالعلم والمعرفة وتكنولوجيا المعلومات!
سيبقي شامخاً بكلماته ومحطاته التاريخية التي صنعها ضمن تيار الرواية المصرية والعربية الحديثة..
وسيظل نافذة واسعة مفتوحة يطل منها العالم علي جوهر وأصالة المجتمع المصري وعلي آدابه في ضوء أعماله التي ترجمت إلي حوالي عشر لغات عالمية أشهرها الأنجليزية والفرنسية والألمانية والصينية والسويدية..
مائة عام..
مرت يوم الحادي عشر من شهر ديسمبر الحالي علي مولده.. جعلت الذكري تتزامن مع أبهي أيام ربيع التغيير الذي يعيشه المجتمع المصري منذ شهر يناير الماضي.. خاصة وأن هذه الأيام تمثل حجر الزاوية في بناء الحياة الديموقراطية الذي يتطلع لها هذا الشعب المصري بكل فئاته وطوائفه !! ذلك التطلع المتواصل الذي عكست روايات عمنا نجيب محفوظ صفحات كثيرة من تاريخه القديم والحديث ورصدت ما مر به من احداث وما عاني من خطوب..
وإذا أضفنا إلي ذلك أن كاتبنا الكبير إهتم علي طول الخط عبر إبداعه وانتاجه لأكثر من ستون عاماً بالفقراء والمهمشين ولم يتوقف يوماً عن المناداة بإنصافهم من الطغم الفاسدة المفسدة التى تحثم علي أنفاسهم وصور بصدق وحساسية زيف حكامهم وعري بطانة السوء التى تحيط بهم وأزاح الستار بحنكة عن المتاجرين بهم علي كافة المستويات، تكشف لنا بوضوح لماذا يدافع عنه جيل الشباب الواعي الثوري المتفهم علي وجه خاص لمعادلة إحتياجات البناء المستقبلي القائم علي العلم الكوني والدين كما حض عليه رب السموات والأرض من ناحية والعدل الإجتماعي والمشاركة في تطوير الحياة من ناحية أخري..
ذلك لأن هؤلاء الشباب علي عكس الكثير من قيادات الحركات والأحزاب السياسية الدينية يعملون لإعادة الإستقرار إلي أنحاء الوطن المصري ويبذلون أقصي جهدهم مع أطراف واعية أخري لكي تنتهي الظروف الإستثنائية التي يمر بها المجتمع في أقرب فرصة ممكنة، دون الإخلال بمطالبهم التى ثاروا من أجلها والتي تتلخص في مطالب توفير حياة كريمة ومستقبل واعد لكل أبناء المجتمع بلا تفرقة أو تهميش أو إقصاء.. الأمر الذي يحعلهم متوافقون بنسبة كبير للغاية مع القيم والافكار التى كان عمنا نجيب محفوظ يطرحها منذ بدأ التواصل مع مجتمعه عبر الكلمة الواعية الملتزمة في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى وفاته..
أين هؤلاء النوابغ الذين أسقطوا رأس النظام المصري بعد صمود سلمي متحضر ndash; صار مضرب الأمثال هنا وهناك - لمدة ثمانية عشر يوما ndash; 25 يناير / 11 فبراير ndash; ممن يزعمون أن التصدي للحاكم حرام !! وأن الشعب لا يجب أن يخرج علي حاكمه مهما أتي من أفعال طالما لم يثبت عليه الشرك بالله !! والذين ينادون ببذل النصحية للحاكم مهما ارتكب من معاصي ومفاسد لعله يرتدع.
هذه الأصوات غير المسئولة التى لا تملك النظرة الشمولية لقضايا الوطن ولا تتمتع بأي مهارات انسانية وإبداعية تقربها من مشاكل أبناء الشعب المقهورين والمقموعين، هى التى وافقت من قبل علي مطلب التوريث الذي كان يروج له رئيس جمهورية مصر السابق وبطانته، بينما رفضه المثقفون والتنويريون والإصلاحيون ومن بينهم عمنا نجيب محفوظ !! بل
لذلك لا يصدقهم أحد عندما يدعون ظلماً وبهتاناً أن كاتبنا الكبير كان يتعامل مع الأديان بشكل غير ملائم وكان يُجدف في نواحي الدين الإسلامي بلا رابط ولا ضمير !! لأن أجيال الشباب المتعاقبة منذ ستينات القرن الماضي وحتى اليوم رفضت أفكارهم المضللة هذه التى حاولت أن تسمم بدن المجتمع المصري وتلغي ذاكرته وتعيده إلي الوراء سنوات طوال..
القارئ المدقق في إبداعات عمنا نجيب محفوظ سيجد شيئاً من الفن وشيئاً من الأدب وكثير من التصوير.. سيبهره الوصف البديع للقاهرة وأنماط الحياة فيها.. وسيُلفت نظره العديد من التفاصيل الدقيقة التى ترسم بحرفية شخصيات أهلها بألوانهم المتنوعة quot; حتى يكاد يسمع أصواتهم ويلمس ملامحهم quot;.. ولن يجد صعوبة في تتبع تنقالتهم بين حواريها ومساجدها ومعالمها الأثرية quot; كأنه واحد منهم quot; وسيعثر علي نفسه بلا مشقة جالساً معها مصغيا لحوارتهم، وربما جرت علي لسانه quot; عبارات quot; مما يدور بينهم..
القارئ المدقق هذا سيشارك صاحبنا نمط الحياة البسيطة التى يعيشها المصري المسلم الذي يعرف أركان دينه بلا ضجيج ويمارس عباداته بلا زيف ويعترف لربه العظيم في السر بأخطاءه ويسأله بحق شفاعة نبيه وجميع أولياءه أن يعفو عنه ويغفر له.. والذي يتعايش مع الآخرين بلا كُلفة ولا إصطناع، وإنما في طيف من السمحة وصدق المشاعر وحلاوة الكلمة وطيب المعشر والرغبة العارمة في التعلم والسعي كلما أمكن للإبتكار quot; والتفنن quot;..
القارئ المدقق والناقد المتخصص سيلاحظ علي كل أعمال عمنا نجيب محفوظ منذ منتصف اربعينيات القرن الماضي 1945 ( رواية خان الخليلي ) وحتى مجموعة quot; احلام اليقظة quot; التى كان ينشرها في مجلة نصف الدنيا حتى قبل وفاته بأيام قليلة (30 أغسطس 2006 ) أنها كانت تدور في فلك الدين والعلم وكان يتمسك دائما بأن quot; الناس إذا تناسوا الدين ضاعوا وإذا لم يستعينوا بالعلم تخلفوا quot; وكان يقول دائماً quot; ان العلم بغير الدين يتحول إلي أداة شر وأن الدين بغير علم تراجع إلي الوراء quot; !! لذلك ظل حتى مماته ينادي بالحرص عليهما معا..
حاجة الشعوب والمجتمعات الأنسانية للدين والعلم لكي يغيروا ما يعتريهم من مصاعب وعقبات ويُفرض عليهم من قهر وأذلال، لا بديل عنها عند عمنا نجيب محفوظ..
الدين يقودهم إلي الهداية ويعلمهم الأخلاق المثلي وينمي فيهم الضمير، والعلم يشيدون به حياتهم علي أسس من الحقائق الملموسة.. وإذا كان الدين يحضهم علي الإيمان بقدرة الخالق المبدع، فالعلم يفتح لهم أبواب المستقبل ويمهد لهم الطريق لإمتلاك مقومات التغيير التي تزيد من إرتباطهم بخالقهم ومن ثم بدينهم..
هذه الحاجة ndash; الحتمية للدين والعلم ndash; لمن يريد البناء والتغيير نراها واضحة وضوح الشمس في آخر جزء من رواية quot; ملحمة الحرافيش quot; ( 1977 ) التى تصف الثورة الشعبية التى قام بها حرافيش quot; الحارة quot;..
فقد رأي عمنا نجيب ببصيرة الأديب الراصد لحركة المجتمع أن المهميشين المظلومين المقهورين المقموعين لا بد أن يخرجوا علي حاكمهم الظالم المفتري quot; الفتوة quot; الذي يستولي
تحية إلي عمنا نجيب محفوظ بمناسبة مئوية مولده.. وتحية له بمناسبة احتفاء الشباب الثوري به.. وتحية له لما تركه وراءه من تراث انساني سيبقي خالداً متجدداً وملهماً إلي ما شاء الله.. وتحية له لأنه تنبأ منذ سنوات طوال بالكثير مما ينصهر اليوم بين جنبات المجتمع المصري بكل شرائحة من مطالب الحرية والعدل والعيش الكريم..
bull;استشاري اعلامي مقيم في بريطانيا [email protected]
التعليقات