ما جرى في بعض بلدات كوردستان قبل أيام من أعمال عنيفة تناولت عمليات إحراق وتخريب لبعض المحلات والفنادق والمراكز السياحية، وبعض النوادي الثقافية والكنائس المسيحية، كشفت عن حقائق مهمة في مقدمتها إنها فشلت ان تكون واجهة لدين أو مذهب أو حزب، بقدر ما هي نتاج خلل مهم في التربية وقصور في الوعي والتوجيه، وضعف واضح في الأداء الإعلامي والسياحي ايضا، إضافة إلى فتور ظاهر في العلاقة بين الأحزاب والحكومة من جهة وبين الأهالي وبالذات قطاع الشبيبة من جهة اخرى، وبشكل خاص العاطلين عن العمل أو العاملين في اعمال غير منتجة أو شريحة العاملين دون سن البلوغ من الأطفال والشبيبة، كما ان الأحداث أثبتت وجود خلل واضح في أداء قوى الأمن الداخلي وبالذات الشرطة، التي كانت بطيئة الى حد ما في أدائها رغم تميزها العالي بالحكمة والصبر أثناء التعامل مع منفذي تلك الأعمال، بما جعل الخسائر محدودة وبالمال فقط، حيث لم يقتل أو يجرح أي شخص من أولئك الذين شاركوا في تلك الأعمال الفوضوية والطارئة على مجتمعاتنا عبر تاريخها، بل حصل العكس حيث جرح الكثير من أفراد الشرطة، مما يدلل ايضا على نضج سلوك التعامل مع هكذا حالات وعدم الانجرار الى الانفعال ورد الفعل العنيف.

لقد أظهرت تلك المشاهد البائسة التي عرضتها شاشات التلفزة مجاميع من الشبيبة معظمهم من الذين لم تتجاوز اعمارهم في احسن الاحوال الخمسة عشر سنة، مما يعني ان اكثر هؤلاء متسربين من الدراسة الابتدائية او المتوسطة أو انهم اساسا خارج المدرسة، وتلك بحد ذاتها كارثة كبيرة في بلاد تبني تجربة مدنية معاصرة في كافة المجالات مما أهلها لتكون واحة للامان والتقدم والسلام والازدهار، إضافة الى ما تتمتع به من سلم وامن اجتماعيين.

والغريب ان الفوضى والفوضى المضادة اشتركت فيها ذات العناصر من الشبيبة والصبية، دونما تفكير بالنتائج وتأثيراتها على المزاج العام للأهالي ومن ثم على الأمن والسلم الاجتماعيين، بل حتى على مساسها بالنسيج السياسي في البلاد وتداعيات ذلك على العلاقات بين الأحزاب في الحكومة أو خارجها، وبغياب دور منظمات المجتمع المدني والأسرة وبالذات الأب والأم في عملية التربية الاجتماعية والوطنية، والارتقاء بمفهوم المواطنة إلى الحد الذي يمنع أي تخديش أو اعتداء على حقوق الأفراد أو الجماعات لأي سبب كان خارج القانون ومن يمثله في سلطاته الثلاث.

وبصرف النظر عن تقييم ما حدث او اعطائه أي عنوان او مسمى، فانه اشار الى نقاط عديدة توضح لنا مناطق الخلل وبعد المسافة بين هذه الشريحة، مهما صغرت وبين منظمات المجتمع المدني ومكاتب الشبيبة لدى كل الأحزاب والحركات، وحتى تلك التي تدعي تمثيلها لهذه الشريحة في المجتمع، حيث كشفت تلك الممارسات ذلك البون الشاسع بين هياكل تلك الاتحادات أو الجمعيات وبين القطاع الواسع من الشبيبة، بل ان ما حدث يؤشر هشاشة الوعي والحصانة الاجتماعية لدى هذه المجاميع ومن التف حولها للتفرج عليها وهي تمارس أعمالا فوضوية لا علاقة لها بالسياسة ولا بالدين ولا الأعراف، فقد أظهرت الأحداث تجمع أعداد كبيرة من الناس السلبيين، كانت أضعاف الذين قاموا بتلك الأعمال الفوضوية للتفرج فقط، مما يعطينا صورة أخرى أكثر تأثيرا وإيلاما حتى من أولئك الذين تورطوا بأعمال خارجة عن القانون، وإلا كيف نفسر هذه الأعداد الكبيرة من الناس وهي تتفرج على مجاميع صغيرة تقوم بالتعدي على المواطنين وحرق أموالهم ومحلاتهم دون ان تعترض أو ترفض هذا السلوك!؟

لقد آن الأوان لكي تدرس هذه الظواهر بشكل جدي ومهم من قبل كل مراكز الدراسات والجامعات بعيدا عن التشنجات والمزايدات السياسية، والنظر اليها من زاوية بعيدة عن الزاوية الأمنية، بما يجعلها حالة سسيولوجية ونفسية غير طبيعية، ترتبط بكثير من الحالات والظواهر المتخلفة اجتماعيا وتربويا وسياسيا واقتصاديا، وحتى في الجانب الديني، حيث أظهرت الأحداث إمكانية استغلالها لصالح تلك الظاهرة الشاذة من خلال بعض رجال الدين من كل الطوائف والأديان خارج ثقافة التسامح وفصل الدين عن السياسة، مما يساعد على تأجيج نوازع بدائية وظلامية لا تتوافق وصيغة الاختيار الشعبي للحياة الحديثة في كوردستان ومشروع نهضتها وفلسفة وتعاليم كل الأديان في تحقيق السلام والإخاء والازدهار.

[email protected]