منذ أن وجِدت السلطة وبكل اشكالها، راحت تبحث عن مصادر القوة لتدعم بها نفسها وتديم عزها وهيبتها، وكان الدين وكل ذي قدسية اول هذه المصادر بل اهمها، لما له من تاثير مباشر وغير مباشر على الإنسان، اضافة الى كون تعاليمه وخصوصياته لا تخضع في الأعم الأغلب للمناقشة والتداول النقدي، لا سيما وان طبقة الكهنة والوعاظ والمنتفعين كرسوا هذه الفوقية والتعالي للمجال الديني والاستفادة من سلطة المقدس وهيمنته لصالح سلطتهم ونفوذهم، حيث تحولت هذه الطبقة نفسها الى سلطة كما هو الحال في الكنيسة و اي نوع من انواع ( الاكليروس الديني). وبنفس الوقت هناك تناضح بين السلطتين اللاهوتية والدنيوية في الاستفادة من نقاط القوة في كل منهما، احيانا السلطة السياسية تمنح الديني شيئا من جبروتها لتزرعه في انسجة الديني ليتماهى فيه مع مرور الزمن، عندها يصعب فك الارتباط بينهما، بل يتعذر احيانا التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي بحت.

والشواهد لهذا التناضح والعلاقة المتبادلة بين ماهو ديني وما هو سلطوي، كثيرة، منها الحديث الذي إدّعى راويه انه سمع الرسول الأعظم (ص) يقول: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس. قلت: كيف أصنع يا رسول الله إذا أدركت ذلك. قال: تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فأسمع وأطع). الحديث واضح كونه موضوع، لتأسيس مبدأ خنوع الانسان للحاكم، وكل ما هو سلطوي.

فيما رأى الفقيه ابن زمنين الأندلسي( ت 399هـ) ان السلطان ظل الله في الأرض وأن السمع والطاعة له واجب سواء كان براً أوفاجراً. و في هذا الاتجاه اكد ابن جماعة، محمد بن ابراهيم: انه إذا استولى ملك أوسلطان بالقوة والقهر والشوكة على بلاد، فينبغي للخليفة أن يفوض أمورها إليه. وقد استُغِل هذا الرأي الفقهي حتى في تولية الأطفال من ابناء القادة، وقد قام بذلك الخليفة المقتدي بأمر الله الذي فوض السلطنة للطفل محمود بن ملكشاه السلجوقي وعمره خمس سنوات. وليست ببعيدة عن هذا التوجه نظرية الدولة الصفوية الأولى (منتصف القرن 15م) التي تقول: بـ ( نيابة السلاطين عن المهدي ). ولا يغفل التأريخ الاسلامي اللعب بالمسميات وتحريفها عن مواضعها التي وضعت لها، كما تم تعريف( القدر) بمعنى (الجبر) لخدمة تطلعات واهداف ( السلطوي) من خلال الزعم بأن الله ساق إليهم الخلافة بسابق علمه قضاء ً وقدراً، فتحولت الخلافة الإسلامية إلى (ملكية وراثية). ومن بين الكم الهائل لهذا التناضح و التواطئ بين السلطوي والديني - لا اقصد الدين بمفاهيمه الإلهية - استوقفتني حادثة محملة بدلالات مكثفة احببت ان اشير اليها: المعروف في فترة صدر الاسلام وأيام الخلافة الراشدة، كانت عقوبة من يخلو مكانه في الثغر (اي موقعه العسكري)، تنزع عمامته ويقام للناس ويشهر أمره. ولكن مصعب بن الزبير(ت72هـ) عندما حكم العراق (يعني اصبح حاكما اسلاميا) قال بخصوص العقوبة، ماهذا بشئ واضاف اليه حلق الرؤوس واللحى. واثناء ممارسة بشر بن مروان(ت75هـ) الولاية في العراق ابتكر طريقة التسمير، حيث يرفع الهارب عن الأرض ويسمر في يديه مسماران في حائط، فربما مات وهو مسمّر، وربما خرق المسمار كفه فسلم. اما الحجاج(ت95) فقال: هذا لعب.. إضرب عنق من يخلو مكانه في الثغر. هذا تطور خطير لمصلحة السلطة وعلى حساب الانسان المقهور. كل هذا تم خلال فترة زمنية لا تصل الى الأربعين سنة، اي من نهاية حكم اخر خليفة راشدي (40هـ) الى (75هـ) حيث أقرّ عبد الملك بن مروان(ت86هـ) الحجاج والياً على العراق.

عند التأمل في هذا المسار الخطير والمتسارع زمنياً (كنموذج) في تغيّر الأحكام والعقوبات نجد الكثير من المفاهيم وقعت في دائرة (المسكوت عنه) منها:

- الطرف الأضعف في هذه المعادلة ومثيلاتها، هو الإنسان غير السلطوي أي (المواطن)، وعليه فقط تطبق احكام الشريعة.
-
- القرار السياسي الفردي، اخذ من قدسية الديني الكثير، بل احيانا يصبح هو الديني، فليس هناك من يعترض حتى من القائمين على المؤسسة الدينية، على العكس من ذلك، المؤسسة الدينية احياناً تبارك ما يحصل حتى و إن سكتت.

-الشرائع جاءت لحماية الإنسان، ولكن الذي يحصل في احيان كثيرة انها تحولت الى سوط بيد السلطان يجلد به ظهور الناس وسيفاً يقطع رؤوسهم، وذلك بفضل فقهاء السلاطين.

-الكم الكبير الموجود في واقعنا المعاش من أحكام وفتاوى محرفة ومزيفة اقتضتها مصلحة السلاطين ومرت عليها مئات السنين وهي تعمل فينا وتحكم الكثير من تصرفاتنا وتساهم في تأخرنا، واحيانا في تناحرنا، وقد رأينا انه في فترة زمنية وجيزة تغير فيها حكمٌ، من نزع العمامة الى نزع الروح.